الحمد للَّه ربِّ العالمين وأفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين، إنّ الإنسان اجتماعي بطبعه ميال إلى الاجتماع بالناس والاستئناس بهم ويُؤثر الصحبة على العُزلة، والإنسان عندما يتخذ صاحباً له لا بد أن يكون هناك رابطا بينهما هو الذي أدى إلى اجتماعهما وصحبتهما.
فالذي ينظر في المجتمع يجد أنّ النّاس تصنّفوا إلى عدة أصنافٍ، السّبب في ذلك اختلاف مقاصدهم وأحوالهم وأخلاقهم وصفاتهم، فأهل الإيمان جمعهم الإيمان باللَّه تعالى، وأهل الكفر جمعهم أنّهم كفار.
ولو نظرت إلى التّجار في السّوق لوجدت أنّ المال والتّجارة والمصلحة الواحدة هي التي جمعتهم.
الصحبة وأهميّتها
إنّ الإنسان إنّما يجالس من هو في جنسه الذي يتّفق مع ميوله وأفكاره، فإذا ما حصل الاتفاق لا بدّ أن يؤثّر أحدهم في الآخر، لِمَ لا؟ والقرين بالقرين يقتدي، فالمخالطة لا تخلو من رابطة ما بين المختلطين فلو لم تكن رابطة بينهما لما استأنس كلٌّ منهما بصاحبه.
وأهمية الصحبة تأتي في كون صفات الأصحاب وأخلاقهم تسري بين بعضهم البعض، وذلك لأنّ النّفس مجبولةٌ على الاقتداء، فعندما يوجد صاحب الإيمان بين أهل المعصية فإمّا أن يتأثّر بهم فيقع بمثل ما يقعون به من المعاصي، وإمّا أن يؤثر بهم فيدعوهم إلى ترك هذه المعاصي .
وفي الحديث عن سيّدنا أبي هريرة رضي اللّه قال صلّى اللّه عليه وسلّم ((الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يُخالل)) رواه أبو داود في كتاب الزهد.
ولقد قيل: قل لي من تصاحب أقل لك من أنت.
وقد قيل: عن المرء لا تسأل واسأل عن قرينه………….فكل قرين بالمقارن يقتدي
لذلك فعلى الإنسان أن يكون حذراً في اختياره لأصحابه لأنّه إن لم يُؤثّر بصحبته لا بد أن يتأثّر بهم.
وللأهمية العظمى للصحبة في حياة الإنسان مَثَّلَ لنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الصّاحب الصّالح وصاحب السّوء، فعن سيّدنا أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((مثل الجّليس الصّالح وجليس السّوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إمّا أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إمّا أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً منتنة)) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الذّبائح.
فالإنسان عندما يدخل إلى محل العطّار لا بد أن يطيّبه ذلك العطّار، فيكون بذلك قد حصل على الطيب، ثمّ إنّه ربما يشتري منه شيئاً من الطّيب وإن لم يحصل على شيء من هذا ولا ذاك فإنّه قد وجد رائحة طيبة وكذلك الصاحب المؤمن لا بدّ أن تتأثّر به، إمّا أن تجده ذاكراً لله فيُذَكِّرَك باللّه، وإمّا أن يسري إليك حاله إن نصحك ووعظك، وإلا فإنّك تتذكّر اللّه برؤيته لقول رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم في الحديث عن سيّدنا ابن عبّاس رضي الله عنهما: قيل يا رسول أيّ جلسائنا خير؟ قال: “من ذكّركم اللّه رؤيته وزاد في علمكم منطقه وذكّركم في الآخرة عمله” رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح كما في جمع الزوائد ج10/6.
أمّا جليس السوء كمثل الحدّاد إما أحرقك بناره أو آذاك برائحته، فمثله مثل المنهمك في معصية اللّه فمجالسته ضررٌ لا نفعَ فيها وشرٌّ لا خيرَ فيه، فإن لم يُصبك بناره التي هي المعصية، آذاك بشرره ورائحته النتنة لمشاركتك له في الجلوس وذلك لأنّ الطّبع يسرق الطّبع والمجالسة مُجانسة وقد قيل:
من جالس العطّار طاب بطيبه ومن جالس الحدّاد نال السوائد
تحذير من الصحبة السيئة
على الإنسان المؤمن أن يكون حذراً أن يقول إنّي أُجالس قرناء السوء لكنّي منكرٌ على حالهم! فإنّ ذلك غير مقبولٍ منه، لأنّه لو كان منكراً على حالهم لما جالسهم ولا صَحِبَهم فإنّ القلب لا يُقبل إلا على ما استحسنه، ولو كان المؤمن مستأنساً بالحقّ وأهله لجانب كلّ كلامٍ مباينٍ له، ولوجد نفسه غريباً بينهم، فلو كان صادقاً مع اللّه لفرَّ من قُرناء السّوء فَرار الشّاة من الذئب خشيةً على ذاته من الهلاك والوقوع بمثل ما يقعون فيه من المعاصي.
ولِيحْذَر المؤمن أن يقول إنّي أجالسهم لعلّي أؤثّر بهم وأدعوهم إلى اللّه، فمن كان ذا عقلٍ يفرُّ من مجالسة أموات القلوب فرار الشّاة من الذئب لِما يعود عليه من وبالهم ولهذا قيل: الذاكر مع الغافلين غافل.
اللّهم إلا إذا علم من نفسه أنّه على قدمٍ راسخٍ ويُؤثّر بمجالسته لهم فينتبهون ممّا هم عليه، وهذا عِلْمٌ لا يكون إلّا لأهل التّمكين لِما قيل أنّ العارف إذا تمكّن في المعرفة يجوز له أن يُجالس السّفهاء لهدايتهم.
فائدة الصحبة
إنّ الإنسان عندما يختلط بالنّاس ويتعامل معهم يظهر له صحة ما هو عليه من الآراء والأفكار والأخلاق ويعلم ما يكمن في نفسه ومعتقداته من الأخطاء والأوهام.
وما ذلك إلا لأنّ الأصحاب كالمرآة، فالواحد منّا عندما ينظر في المرآة يتبيّن له جمال شكله من قبحه، فعندما كان الأصحاب كالمرآة من حيث أنّه بهم يكتشف الإنسان صحّة ما هو عليه أو خطئه، فتظهر له عيوب نفسه وأخطائها.
من أجل ذلك كان من الواجب عليه أن يختار الصحبة الصالحة التي يكتشف من خلالها عيوب نفسه وأخطائها، فإن كان هؤلاء الأصحاب من أهل الإيمان باللّه تعالى ظهرت له أفعاله وتصرفاته بصورة صحيحة كالمرآة الصافية.
أما إن كانوا من أصحاب المعصية والبعد عن اللّه تعالى ظهرت له تصرفاته وأفعاله وما يكنّه في صدره بصورة معكوسة حيث يبدو له الحسن قبيحاً والقبيح حسناً.
ولذلك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ((المؤمن مرآة المؤمن)) أخرجه أبو داود عن أبي هريرة، كما قال عليه الصّلاة والسّلام: ((المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى)) أي أن المؤمن يجد خطأه في وجه أخيه المؤمن عندما ينكر عليه ذلك وينصحه ويرشده إلى التخلّص منه من غير أن يكون بينهما بغض أو حسد.
وعندما كانت فائدة الصحبة عظيمة اشترط الصوفية في السّلوك والسّير إلى اللّه تعالى أن يصحب المريد شيخاً عارفاً باللّه تعالى قد وصل إلى مرتبة من الإيمان حتى أنّه كالمرآة، فيكشف لذلك المريد عيوب نفسه والأمراض التي هو واقعٌ فيها ويساعده على التخلّص منها، وذلك لأنّه لا يوجد إنسان لا يخلو من العيوب وأمراض النّفس التي لا يستطيع أن يُدركها بنفسه كالرياء والعُجب والكِبَر والبُخْل.
ومما يدل على صحّة شرط الصحبة عند الصوفية أنّ الصّحابة رضي الله عنهم لم يستطيعوا أن يتغيّروا عما كانوا عليه في الجاهلية إلا بمصاحبتهم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ومجالستهم له.
ويُخطئ كثير من النّاس والمسلمين ويظنّ بعضهم أنّه يستطيع مداواة نفسه من غير أن يصحب من يدلّه على عيوب نفسه، وذلك بتلاوة القرآن والحديث الشّريف، فلو كان أحدٌ يستطيع ذلك لاستطاع الصّحابة رضي اللّه عنهم ذلك، فإنّهم حفظوا القرآن وتمثّلوا به لكنّهم لم يستطيعوا أن يخرجوا من أمراض نفوسهم إلا بصحبتهم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الذي كان يطبب قلوب الصحابة ويزكّي نفوسهم بحاله وقاله.
قال تعالى: ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ)) [الجمعة: 2].
فاللّه سبحانه وتعالى بيّن لنا أنّ المهمة الأولى لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قبل التعليم هي التزكية وإظهار عيوب النّفس وأمراضها وكيفيّة مداواتها.
فأكّد سبحانه وتعالى بذلك فائدة أن يكون للإنسان من يُظهر لـه عيوب نفسه، بأن يتّخذ شـيخاً قد كَمُلَ إيمانه عارفاً بعيوب النفس وأمراضها بحيث يجلو له مرآة قلبه.
فإذا كانت مجالسة الصحابة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قد نهضت بحالهم وارتقت بنفوسهم عن مستوى البشرية وسمت بأرواحهم إلى مستوى ملائكي وطهّرت قلوبهم من أردان المادة وسمت بالإيمان إلى مستوى المراقبة والشهود، فهكذا أيضاً مجالسة العارفين باللّه الوارثين لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم تُزكّي النّفوس وتزيد بالإيمان وتوقظ القلوب وتذكّر باللّه تعالى، والبُعد عنهم يُورث الغفلة وانشغال القلب بالدّنيا وميله إلى متع الحياة الزائلة .
الدليل على الصحبة
والأدلّة على أهمية صحبة الإنسان لمن يُرشده إلى عيوب نفسه ويظهرها له كثيرة جداً..
فمن القرآن الكريم
1) قوله تعالى: ((وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)) [الكهف: 28].
فالله سبحانه وتعالى يأمر نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم بصحبة الذين يقصدون وجه اللّه ويسعون إلى رضاه، ولا يمنع أن يكون فيها أيضاً إرشادٌ لنا بصحبة من هذه أوصافه إذ الأمر لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم أمر لنا أيضاً في هذه الحالة فأين حالنا من حال سيّدنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، فإن أمر اللّه نبيه الكريم بذلك فنحن من باب أولى نحتاج إلى أن نصبر أنفسنا على صحبة الأخيار والصّادقين.
2) ومنها قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ)) [التوبة: 119].
فالصّادقون هم الذين تمثّلوا كتاب اللّه وسنّة رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم، فصفت نفوسهم وتنـزّهت عما هي عليه أخلاق البشر، فكانوا بذلك كالمرآة الصافية التي تكشف للإنسان حقيقة نفسه.
3) قال تعالى : ((الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)) [الزخرف: 67].
فلقد وصف اللّه سبحانه وتعالى الأصدقاء بأنّهم كلهم أعداء لبعضهم يوم القيامة، واستثنى اللّه المتقين وذلك لأنّه لم يجمعهم على الصحبة إلا حب اللّه عز وجل والصدق في طلب اللّه ليست المصلحة أو المال أو المعصية التي جمعتهم كما جمعت غيرهم من الأصحاب، وكذلك صحبة المريد لشيخه في طريقه إلى اللّه تعالى فلم يجمع المريد مع شيخه إلّا صدقهم في طلب اللّه والسعي إلى مرضاته، فأحدهم طالبٌ والآخر مطلوب.
4) قال تعالى حاكياً عن سيّدنا موسى عليه السّلام حين التقى الخضر عليه السّلام بعد عزمٍ صادق وعناءٍ طويل: ((قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا)) [الكهف: 66].
فسيّدنا موسى عليه السّلام وهو نبيٌّ يطلب الصحبة من الخضر عليه السّلام لكي يتعلّم منه ويستفيد، فإذا كان نبيٌّ يطلب الصحبة فكيف بنا ونحن أحوج منه إلى صحبة من يرشدنا إلى ما وقع في قلوبنا من الأمراض.
5) قال تعالى: ((وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا)) [الفرقان 27- 29].
الدليل على أهمية الصحبة في الحديث الشريف
- عن أبي موسى الأشعريّ رضي اللّه عنه قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً منتنة)) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الذبائح.
- عن ابن عبّاس رضي اللّه عنهما قال: قيل يا رسول اللّه أي جلسائنا خير؟ قال: “من ذكركم الله رؤيته وزاد في علمكم منطقة وذكركم في الآخرة عمله” رواه أبو يعلى.
- عن أبي هريرة رضي اللّه عنه: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ((الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)) رواه أبو داود والترمذي في كتاب الزهد.
- عن حنظلة رضي الله عنه قال: لقيني أبو بكر رضي الله عنه فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة قال: سبحان الله ما تقول؟ قلت: نكون عند رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- يُذَكِّرنا بالجنّة والنّار كأنّا رأي عين فإذا خرجنا من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً. قال أبو بكر رضي اللّه عنه: فوالله إنّا لنلقى مثل هذا فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ….))
إنّ هذه الأحاديث وغيرها الكثير تبيّن بمجموعها أهميّة الصحبة وأثرها في تربية النّفس ولا سيّما حديث سيّدنا حنظلة الذي يبيّن كيف كانت مجالسة الصحابة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم تؤثّر بهم وتجلي بصائرهم وترتفع بالأرواح إلى مستوى ملائكي وتسمو بالإيمان إلى مستوى المراقبة والشهود.
وكذلك أيضاً مجالسة المريد لشيخه الوارث لهذا الحال المحمديّ تُزَكّي نفسه وتوقظ قلبه وتزيد الإيمان وتسمو به إلى مستوى الشهود والعيان .
الدليل على أهمية الصحبة من أقوال الفقهاء والمحدثين
1) قال ابن حجر الهيثمي رحمه الله: في الفتاوى الحديثية (55)
((الحال أنّ الأولى بالسالك قبل الوصول إلى هذه المعارف أن يكون مُديماً لما يأمره به أستاذه الجامع لطرفي الشّريعة والحقيقة فإنّه الطّبيب الأعظم، فبمقتضى معارفه الذّوقيّة وحِكَمِه الربانيّة يُعطي كلّ بدنٍ ونفسٍ ما يراه هو اللائق بشفائها والمُصلح لغذائها))
2) الإمام فخر الدّين الرازي في تفسيره لسورة الفاتحة: 1/142
((الباب الثالث في الأسرار العقليّة المُستنبطة من هذه السورة: اللّطيفة الثالثة: إنّه لما قال (اهدنا الصراط المستقيم) لم يقتصر عليه بل قال: (صراط الذين أنعمت عليهم) وهذا ما يدلّ على أنّ المريد لا سبيل له إلى الوصول إلى مقامات الهداية إلا إذا اقتدى بشيخ يهديه إلى سواء السبيل ويجنّبه من الوقوع في الأغاليط وذلك لأنّ النقص غالبٌ على أكثر الخلق وعقولهم غير وافية بإدراك الحقّ فلا بدّ من كامل يقتدي به الناقص حتى يتقوى عقل ذلك الناقص بنور عقل الكامل)).
3) شيخ الإسلام إبراهيم الباجوري في شرحه لجوهرة التوحيد : 133
كن كما كان خيار الخلق……………حليف حلم تابعاً للحق
وذلك في شرحه لهذا البيت: (أي كن متّصفاً بالأخلاق مِثْل الأخلاق التي كان عليها خِيَار الخلق إلى أن قال: وإذا كانت المجاهدة على يد شيخٍ من العارفين كانت أنفع لقولهم: حال رجلٍ في ألفِ رجلٍ أنفعُ من وعظِ ألفِ رجلٍ في رجل. فينبغي للشخص أن يلزم شيخاً عارفاً على الكتاب والسّنة بأن يزنه قبل الأخذ عنه فإن وجده على الكتاب والسّنة لازمه وتأدّب معه فعساه يكتسب من حاله ما يكون به صفاء باطنه).
4) الإمام ابن القيّم الجوزيّة رحمه الله: قال في كتابة الوابل الصيب من الكلم الطيب: ص53
((إذا أراد العبد أن يقتدي برجل فلينظر هل هو من أهل الذكر أو من الغافلين وهل الحاكم عليه الهوى أو الوحي فإذا كان الحاكم عليه الهوى وهو من أهله الغفلة كان أمره فرطاً .. إلى أن قال: فينبغي للرجل أن ينظر في شيخه وقدوته ومتبوعه فإن وجده كذلك فليبعد منه، وإن وجده ممّن غلب عليه ذكر اللّه واتّباع السّنة فليتمسّك بغرزه)).
من أقوال العارفين باللّه في فائدة الصحبة
1- الإمام الغزالي رضي اللّه عنه: ((ممّا يجب في حقّ السّالك طريق الحقّ أن يكون له مرشد ومربٍّ ليدلّه على الطّريق ويرفع عنه الأخلاق المذمومة ويضع مكانها الأخلاق المحمودة)) . خلاصة التصانيف في التصوف ص 1 . وقال أيضاً في الإحياء : 2/55: ((لكنّ أكثر الخلق جاهلين بعيوب أنفسهم يرى أحدهم القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عين نفسه فمن أراد أن يعرف عيوب نفسه له أربعة طرق: الأولى: أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب النّفس مطلع على خفايا الآفات وهذا شأن المريد مع شيخه فيعرفه شيخه عيوب نفسه ويعرّفه طرق علاجها)) .
2- الإمام الشعراني رضي اللّه عنه قال في كتابة لطائف المنن والأخلاق: 1/25
((لو أنّ طريق القوم يوصل إليها بالفهم من غير شيخ يسير بالطالب فيها لما احتاج مثل حجّة الإسلام الإمام الغزاليّ والشّيخ عزّ الدّين بن عبد السّلام أخذ أدبهما من شيخ مع أنّهما كانا يقولان قبل دخولهما التصوف: كل من قال أن ثَمّ طريقاً للعلم غير ما بأيدينا فقد افترى على اللّه. فلمّا دخلا طريق القوم كانا يقولان: ضيّعنا عمرنا في البطالة والحجاب) ثم قال: (واعترف الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه لأبي حمزة البغدادي بالفضل عليه وطلب الإمام الغزالي وقد لقب حجة الإسلام شيخاً يدله على الطريق وكذلك الشيخ العزّ بن عبد السّلام مع أنه لُقِّبَ بسلطان العلماء وكان يقول رضي الله عنه: ما عرفت الإسلام كاملاً إلا بصحبة الشّيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه. فإذا كان هذا الشيخان قد احتاجا إلى الشّيخ مع سعة علمهما بالشريعة فغيرهما من أمثالنا من باب أولى)) لطائف المنن والأخلاق 1/50.
3- قال أبو علي الثقفي رحمه اللّه: (لو أنّ رجلاً جمع العلوم كلّها وصحب طوائف النّاس لا يبلغ مبلغ الرجال إلا بالرّياضة من شيخٍ مؤدِّبٍ ناصحٍ، ومن لم يأخذ أدبه من آمرٍ له وناهٍ يُريه عيوب أعماله ورعونات نفسه لا يجوز الاقتداء به في تصحيح المعاملات) طبقات الصوفية للسّلميّ ص 365.
4- قال سيّدي أبو مدين رضي اللّه عنه: ((من لم يأخذ الآداب من المتأدّبين أفسد من يتبعه)).
5- الشيخ أحمد زرّوق رضي اللّه عنه: قال سيّدي أحمد زرّوق في كتابه قواعد التّصوّف (65):
( أخذ العلم والعمل عن المشايخ أتمّ من أخذها دونهم، فلزمت المشيخة سيّما والصحابة أخذوا عنه عليه الصّلاة والسّلام فأمّا العلم والعمل فأخذه جليّ وأما الإفادة بالهمّة والحال فقد أشار إليها أنسٌ بقوله: ((ما نفضنا التراب عن أيدينا من دفنه عليه الصلاة والسلام حتى أنكرنا قلوبنا)) رواه الإمام أحمد وابن ماجه. فأبان أنّ رؤية شخصه الكريم صلّى اللّه عليه وسلّم كانت نافعة لهم في قلوبهم فلذلك أمر اللّه بصحبة الصّالحين ونهى عن صحبة الفاسقين)).
6- سيّدي ابن عطاء اللّه السّكندريّ رضي الله عنه: قال في كتابه مفتاح الفلاح: ص 30
((ينبغي لمن عزم على الاسترشاد وسلوك طريق الرّشاد أن يبحث عن شيخ من أهل التّحقيق سالك للطّريق تارك لهواه راسخ القدم في خدمة مولاه، فإذا وجده فليتمثّل ما أمر ولينته عما نهى عنه وزجر)).
إنّ جميع الأدلة السابقة لتدل على أهمية الصحبة الصالحة وفائدتها لاسيّما صحبة شيخ عارف بأحوال النّفس وأمراضها وتحذّر من صحبة قرناء السّوء وأهل المعاصي .
اترك تعليقاً