المحبة في الإسلام

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

لقد قيل إن المحبة هي أساس الحياة ولولا المحبة لما استمرت الحياة، فكيف تتجلى المحبة في الإسلام؟

أنواع المحبة

من المعلوم أن المحبة في قلب كل إنسان حتى لا يكاد يخلو منها قلب، ولكن المحبة ليست على درجة واحدة ولا على نوع واحد، فمن أنواع المحبة:

محبة الإنسان لنفسه

ليس هناك إنسان لا يحب نفسه، فهي أغلى شيء عنده، ولِمَ لا يحب الإنسان نفسه وهي التي لو ذهبت لكانت نهايته، وهذا النوع من المحبة لا يخلو منه قلب.

محبة الإنسان لولده

لقد فطر الإنسان على محبة ولده، فهو أمر مجبول عليه، وما ذلك إلا لأنه يرى فيه استمراراً لوجوده وحياته، ولذلك فإنه يحبه ويحافظ عليه من الأهوال والمخاطر، ولولا هذا النوع من المحبة لما استمرت الحياة، ولما تعمرت البيوت وقامت الأسر، ويدخل في هذا النوع محبة الإنسان لعشيرته وأقاربه.

محبة الفطرة

لقد فُطِر الإنسان على محبة أشياء كثيرة في هذه الحياة كمحبة الجمال، فليس هناك إنسان إلا ويحب الجمال، سواء أكان الجمال جمال إنسان أم جمال طبيعة، لكنه يختلف من إنسان لآخر.

محبة الإحسان

فكما قيل، إن القلوب قد فطرت على محبة من أحسن إليها، فلو أن إنساناً قد صنع معك معروفاً أو قدم لك مساعدة في تحقيق نجاح لك في حياتك، فإنك لا تزال تذكره وتذكر صنيعه معك وإحسانه لك، وما ذلك إلا لأنه قد أحسن لك يوماً.

محبة كامل الصفات

لو رأيت رجلاً يحسن التعامل مع الناس لا شك أنك ستقع في حبه واحترامه من حيث لا تشعر، وكذلك الأمر لو رأيت إنساناً حسن الأخلاق مع الناس في كل تعاملاته معهم، لا يُرى منه إلا الخير، ولا يُذكر بين الناس إلا بالخير والصيت الحسن.

إذا كان ذلك حالك مع من اتصف بصفة واحدة من الكمال، فكيف أنت برجل قد اتصف بكل صفات الكمال حتى أنه غدا مقياساً، لا شك أن قلبك يقع أسيراً له ويقع حبه في قلبك من حيث لا تشعر، وكلنا يعلم أنه ليس في الوجود أكمل من رسول الله ﷺ، أما الكمال لغيره من الناس فهو نسبي.

محبة النبي ﷺ

من الممكن لكل مؤمن بالله تعالى أن يجعل من هذه الأنواع محبة واحدة، ألا وهي محبة رسول الله ﷺ، فرسول الله ﷺ أولى بالمحبة من محبة الإنسان لنفسه، فإذا كانت نفس الإنسان تسعى إلى الشهوات والملذات ما يؤدي إلى هلاكه في دنياه وآخرته، فرسول الله ﷺ يسعى إلى أن يحقق له سعادة أبدية في دنياه وآخرته، والله تعالى يقول: ((النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم)) [الأحزاب 6].

ثم إن رسول الله ﷺ إنما هو الوالد الذي يسعى أن يحافظ على أولاده، ويهدف إلى أن يحقق لهم السعادة الأبدية في أولاهم وأُخراهم، وما ذلك إلا مصداقاً لقوله ﷺ: “إنما أنا لكم مثل الوالد”، ثم إن الولد إذا كان يحب أباه لأنه سبب وجوده في الدنيا، فرسول الله ﷺ أولى بأن يُحَب لأنه سبب نجاته وسعادته في الدنيا والآخرة.

أما محبة الفطرة فإذا كان الإنسان قد فُطِر على محبة الجمال، فليس هناك في الوجود من هو أجمل من رسول الله ﷺ، فرسول الله ﷺ أولى أن يحب لأنه قد حوى الجمال كله، فهو أجمل البشر على الإطلاق صلوات ربي وسلامه عليه.

وأما محبة الإحسان فليس هناك أحد في هذا الوجود إلا وكان لرسول الله ﷺ، فضل عليه حتى إن وجوه إحسانه ﷺ على الخلق لا يمكن أن تعد أو تحصى فبه هدى الله البشرية وبه أنقذها من الضلال إلى الهداية وفوق ذلك كله الكل ينتظر شفاعته ﷺ يوم القيامة.

وأما عن محبة كامل الصفات، فهل هناك من هو أكمل من رسول الله ﷺ، فكل من اتصف بصفة من صفات الكمال إنما هو مقتبس عن رسول الله ﷺ، فلقد جمع رسول الله ﷺ في شخصه الكريم جميع الأخلاق الحسنة، فكان خلقه القرآن كما أخبرت بذلك السيدة عائشة رضي الله عنها.

وفي الحديث عن أنس رضي الله عنه قال: “كان رسول الله ﷺ أحسن الناس خُلُقاً”، ولقد حاز رسول الله ﷺ الدرجة القصوى حتى كان خير أسوة لكل من أراد الله، فقال تعالى: ((لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً)) [الأحزاب 21].

لماذا نحب النبي ﷺ؟

قد يسأل سائل ما الذي يدفعنا إلى محبة النبي ﷺ؟ ولماذا نحبه؟ نقول له: إن الأمور التي تدفعنا إلى حبه ﷺ كثيرة قد لا تحصى، لكننا نذكر منها:

لأن الله تعالى قد هدانا به ﷺ

فلقد جاء رسول الله ﷺ والناس في جاهلية ما بعدها جاهلية، ضلال وغواية، القوي يأكل الضعيف، وشريعة الغاب هي السائدة، لقد كان الناس متفرقين، نظام القبيلة تحت رحمة زعمائها هو السائد آنذاك.

ففي غزوة حنين قال رسول الله ﷺ للأنصار: “يا معشر الأنصار أم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي…”.

رسول الله ﷺ هو رحمة لهذه الأمة

قال الله تعالى: ((وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)) [الأنبياء 107] فإن الله تعالى قد جعل رسوله رحمة لهذه العوالم، ولقد كان رسول الله ﷺ رحيماً بنا، فمن رحمته بأمته أنه كان يخفف على أمته كثيراً من الأوامر الدينية فيقول: “لولا أن أشق على أمتي…”.

ومن رحمته بأمته ﷺ أنه قد أخر دعوته إلى يوم القيامة لتكون شفاعة لأمته، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: “لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة”.

لقد كان النبي ﷺ شديد الرحمة بأمته حتى أن الله عزَّ وجل قد خلع عليه اسمين من أسمائه فقال في حقه: ((لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)) [التوبة 128].

ما يكنّه قلبه الشريف ﷺ تجاه أمته

لو يعلم الواحد منا ما بقلب رسول الله ﷺ من الشوق والحب للمؤمنين به من بعده الذين آمنوا به من غير أن يروه حتى جعلهم أحبابه، فقد قال ﷺ مرة: “أحبابي أحبابي” فقال الصحابة: “أَوَلسنا أحبابك يا رسول الله؟” قال: “لا، أنتم أصحابي، أحبابي هم الذين آمنوا بي ولم يروني”.

لقد كان ﷺ كثير البكاء والحزن على المؤمنين، وقد كان يتقطع قلبه أسى وحزناً على تقصيرهم أو عدم اتباعهم حتى أن الله تعالى واساه أكثر من مرة فقال: ((فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً)) [الكهف 6]، أي فلعلك قاتل نفسك أو مهلكها حزناً وأسفاً على إعراضهم عنك،

ومنها قوله تعالى: ((فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليمٌ بما يصنعون)) [فاطر 8]، لقد كان يواسيه حتى لا يتفطر حزناً وأسى على أمته، لذلك وصفه الله تعالى بأنه: ((بالمؤمنين رؤوف رحيم)) [التوبة 128].

لو استشعر المسلمون ذلك لذابوا حباً وشوقاً وهياماً لرسول الله ﷺ، بل لذابوا خجلاً وحياءً مما تجنيه أيديهم وأنفسهم في تقصيرهم نحوه ﷺ.

حرصه ﷺ على أمته

رسول الله ﷺ هو أحرص علينا من أنفسنا، فهو يدعونا إلى السعادة في الدنيا والآخرة، لكن أنفسنا تدعونا إلى ما فيه شقاؤنا في الدنيا وهلاكنا في الآخرةـ، ومن علامات حرصه علينا ما رُوِي عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله ﷺ: “إنما مَثَلي ومَثَل أمتي كمَثَل رجلٍ استوقد ناراً، فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه، فأنا آخذ بحجركم وأنتم تقعون فيه”.

ومن حرصه علينا أنه قد أخر دعوته المستجابة إلى يوم القيامة شفاعة لأمته كما ذكرنا، ومن حرصه على أمته أن الله قد أكرمه بأنه سيرضيه فيها يوم القيامة ولا يسوؤه فقال الله تعالى: ((ولسوف يعطيك ربك فترضى)) [الضحى 5]، فمن كان هذا حاله وحرصه وشفقته ورحمته بأمته فكيف لا يُحَبُّ ﷺ.

شفاعته ﷺ لأمته

ومن كرم رسول الله ﷺ علينا فوق كل ما ذكرنا أنه يشفع لأمته يوم القيامة، وشفاعته لا تقتصر على المؤمنين، فإنه يشفع لمن دخل النار من أمته حتى لا يبقى فيها إلا من وجب عليه الخلود، وشفاعته ﷺ لا تشمل أهل الصغائر فحسب، بل لأهل الكبائر أيضاً.

ولكثرة شفاعته لأمته فإنها ستغدو شطر أهل الجنة، فقد قال رسول الله ﷺ: “إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة” وفي رواية “ثلثي أهل الجنة”، فإذا كان هذا شأن رسول الله ﷺ وتكريم الله تعالى لأمته، ألا يستحق المحبة من قِبَلنا والطاعة له والشوق إلى لقائه.

أمر الله لنا بمحبته ﷺ

إذا كان ما سبق يوجب محبتنا للنبي ﷺ، فكيف إذا أضيف إلى ذلك الأمر من الله عز وجل بمحبة النبي ﷺ، حتى أن الله قد جعل الطريق إلى حبه تعالى هو محبة نبيه واتباع نهجه، فقال عز من قائل: ((قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)) [آل عمران].

كما أنه أوجب تقديم محبته على محبة كل مخلوق، وحذر من تقديم محبة أحد المخلوقات على محبته ﷺ، فَجَعَلَ شرط الإيمان إنما هو المحبة، فمن آمن ولم يحب لم يكمل إيمانه، قال ﷺ: “لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين”، ولقد عنون البخاري رحمه الله هذا الباب بـ “باب حب الرسول الله ﷺ من الإيمان”.

كل ذلك يستدعي محبة النبي ﷺ، ولا يمكن أن نحصر الأسباب والدوافع التي توجب حبه، أسأل الله تعالى أن يرزقنا حبه وحب نبيه وحبيبه ﷺ.

علامات محبة النبي ﷺ

واعلم أخي الكريم أن المحبة إنما هي دعوى، والدعوى لا تثبت إلا بالبرهان، فمن ادعى محبة شيء كان عليه أن يظهر من حاله ما يدل على محبته، وإلا لكانت محبته مجرد دعوى كاذبة.

وكذلك أيها الأخ المؤمن إذا كنت تدّعي محبة رسول الله ﷺ فإنه عليك أن تأتي بالبرهان، وإلا لكنت كاذباً في محبتك ليس لك منها إلا الاسم.

وطرق إثبات دعوى محبة رسول الله ﷺ كثيرة، منها:

الاقتداء به ﷺ

من أحب شخصاً بات يقلده في لباسه وحركاته، وبات يتلفظ بأقواله، فمن مظاهر المحبة أن يتصف المحب بصفات حبيبه ويقتدي به ويتخلق بأخلاقه، فكيف بنا في رسول الله ﷺ، فمن ادعى محبته ﷺ كان عليه أن يقتدي به في كل حركاته، ويتخلق بأخلاقه في بيعه وشراءه وعلاقته مع الناس، وفي دعوته إلى الله، وفي حلمه، يكون مقتدياً برسول الله ﷺ في عبادته لربه وعلاقته معه على قدر طاقته من غير تكلف.

وكل من يدعي محبة رسول الله ﷺ ولا يقتدي به في كل حركاته وسكناته ولا يتخلق بأخلاقه ويتصف بصفاته فإن محبته مجرد دعوى فارغة ليس له منها إلا الاسم.

الإكثار من الصلاة عليه ﷺ

فمن أحب شيئاً أكثر من ذكره، وعلى قدر محبته لهذا الشئ يكون ذكره له، وكذلك محبة رسول الله ﷺ، فكلما قويت المحبة وتمكنت من القلب كانت الصلاة عليه أكثر.

ثم إن مجرد الصلاة عليه ﷺ تختلف رتبتها بحسب درجة المحبة، فهناك من يصلي على رسول الله ﷺ وليس له منها إلا رقرقة اللسان، وهناك من يصلي عليه ﷺ مستحضراً إياه، وهناك من يصلي عليه وهو ينظر إليه، وليس ذلك الاختلاف إلا لاختلاف درجة المحبة مع أن الصلاة عليه واحدة.

تعظيم أهل بيته وصحابته رضي الله عنهم ومحبتهم

ومن علامات محبتك لرسول الله ﷺ أن تحب أهل بيته وتعظمهم وتوقرهم، وكل من لاذ برسول الله ﷺ، ولقد حثنا رسول الله ﷺ على ذلك، فعن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله ﷺ: “… وأذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي” قالها ثلاث مرات.

وعلى هذا كان حال الصحابة رضي الله عنهم، فها هو سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: “والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله ﷺ أحب إلي من أن أصل من قرابتي”، وقدم سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أسامة بن زيد على ابنه عبد الله في العطاء، وما ذلك إلا لأنه الحِب ابن الحِب، سماه بذلك رسول الله ﷺ.

ومن محبتك لرسول الله ﷺ محبتك لأصحابه الذين تشرفوا بصحبته وقاموا بمؤازرته ونصره والقتال معه، حتى أن رسول الله ﷺ حثنا على محبتهم، فقال عليه الصلاة والسلام: “لا تسبّوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه”، ولِمَ لا نحبهم وقد كان قرنهم خير القرون كما قال رسول الله ﷺ: “خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم”.

لذلك فإن في محبتك وتوقيرك لآل بيت رسول الله ﷺ وصحابته إنما هو حبٌ لرسول الله ﷺ وتوقيرٌ له، لأنهم يختصون به ويلوذون به، فمن أحبهم فقد أحب رسول الله ﷺ، ومن أبغضهم فقد أبغض رسول الله ﷺ.

محبة ما أحب رسول الله ﷺ وكراهية ما كره

من علامة حبك لرسول الله ﷺ أن تحب كل ما أحبه من الطاعات كالصلاة وحب القرآن، وأن تحب سنته، وأن تخص بمزيد من الحب لمن خصه رسول الله ﷺ بمزيد من الحب، وكذلك حبك لما أحب من الطعام والشراب، وكذلك أن تكره ما كره رسول الله ﷺ.

هذا كان حال الصحابة رضوان الله عليهم، فعن كريمة بنت همام أن امرأة أتت السيدة عائشة رضي الله عنها فسألتها عن خضاب الحناء، فقالت: “لا بأس به، ولكني أكرهه، كان حبيبي رسول الله ﷺ يكره ريحه”، وكذلك حب أنس رضي الله عنه للدباء لحب رسول الله ﷺ لها.

فالمحب يفعل ما يفعله محبوبه، ويقتدي به في كل أحواله، ويجتنب كل ما يكرهه ونهى عنه، وإلا لم يكن محباً صادقاً في محبته.

أن يشتاق لرؤية محبوبه

فمن شأن المحب لرسول الله ﷺ أن يشتاق دوماً لرؤيته، وإذا حال بينه وبين رؤيته ﷺ حائل بذل قصارى جهده ودفع كل ما يملك حتى يتمكن من رؤيته، ولو كان الثمن هو الأهل والمال، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: “من أشد أمتي لي حباً ناسٌ يكونون بعدي، يود أحدهم لو رآني بأهله وماله”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

في حال كان لديك أي سؤال عن التصوف والصوفية يمكنك التواصل معنا، نرحب بجميع الأسئلة من أي طرف كانت!