انتصر التصوف في الميدان

كلما مرت حقبة من الزمان قرأنا في أحداثها تمهيداً لعودة التصوف إلى الحياة من جديد، فما يمر من حدث إلا وتشهد فيه أنه قد انتصر التصوف في الميدان، وما تُشن من حرب إلا والرابح هو التصوف، وكأن دفة الحياة اليوم تسير لتتويج التصوف سيداً على العالم الإسلامي.

لقد تعاقب بعد سقوط الخلافة على إدارة دفة الحكم في العالم الإسلامي أحزابٌ وحركاتٌ، وتفاءَل بها المسلمون أيما تفاؤل، وماذا كانت النتيجة؟ رجوعٌ لا تقدم، واندحارٌ لا نصر، عملٌ وتحركٌ جر على العالم الإسلامي مزيداً من الضيق و الضغط، مع ندمٍ وقولِ أخطأنا الهدف.

انتهت السلفية إلى هزيمةٍ ومزيدٍ من التشتت، وخلّفت في قلوب الناس كرهاً وتبرماً، ظنت أنها بالقسوة والسلطة تحمل الناس على ما تريد فيكونون طوع أمرها، فكرهها الناس أو كادوا يكرهون الإسلام لأجلها، كما سخّرت لنشرها العديد من الأموال، وماذا كانت الحصيلة؟؟

ظننّا بالنظر لما يُصرف لها من دعم أنها ستلتهم العالم الغربي فيدخل الإسلام كل بيت، لكننا رأينا المسلمين يخرجون أكثر، ورأينا انتشار الضلال بينهم أعم.

ولقد أحست السلفية مؤخراً بأخطائها، فرأت أن تعيد النظر في بعض ما تراه، لأن الانفتاح على العالم جعلها تدرك خطأ كثيرٍ مما تراه، فخففت من لهجة الانتقاد، وآمنت بحق الاختلاف، ووسعت من دائرة الاعتراف، بل إننا نرى على الساحة اليوم حركة تصحيح في السلفية، ووجوهاً جديدةً إن سمعتها ما ظننتها منهم إلا لبعض ما ورثوه عن من قبلهم مما يذكرونه بحذر ورقة.

لقد اتبعوا من السلف قوله وظاهره، فكانوا داوود الظاهري أو ابن حزم، وحتى القرن الرابع عشر لم يتردد الكثيرون من تسميتهم بالظاهرية الجدد، ولكن لم يكن لهم من حقيقته ولبه وحاله أدنى نصيب.

إذا فعل السلف شيئاً لماذا فعلوا؟ وما القصد منه؟ وعلامَ بنوه؟ فلا يكفي العلم بفعلهم لاتباعهم؛ لأنك إن تبعتهم بالفعل قد لا تتبِعُهم بالغاية التي تسكُن القلب حين فعله، وتجهل القاعدة التي بَنَوا عليها فعلهم ذاك، إذ ليس العلم حفظ ما نُقل، بل فهمه واستيعابه وإدراكه، فالعلم إدراكٌ أكثر من أن يكون حفظاً.

هذه هي السلفية، أما مُسلِمو الأحزاب والحركات فكانت أشد وطأةً على المسلمين، وإن صدق فيهم وصفٌ فالشياة من غير راعٍ، افتقروا إلى قيادةٍ تملك العقل والحكمة، وتحسب النتائج قبل البدء بالعمل، وإن كنا نرى ما يَرون من الأهداف، لكننا لا نتفق معهم في المنهج والأسلوب.

صافحوا كل يدٍ مُدّت لهم بالعون والمدد، ظنّاً منهم أن يُفلتوا من استخدامهم لهم، فوَقَعوا في شِرك العمالة والخيانة، ولقد لعبت بعقولهم جهاتٌ كثيرةٌ اصطادتهم لمآربها حتى جُرِّدوا من القدرة على اتخاذ الرأي، وجُعِلوا على هامش الحياة يراهنون على السلطة ويَعِدون إن وصلوا إليها بالنجاح الباهر، وهم فاشلون في إدارة تنظيمهم.

لقد انقلبت عندهم الدعوة إلى الله إلى دعوةٍ إلى الذات، ولم يَسلَموا من دخول حب الدنيا إلى قلوبهم، وزيّن لهم الهوى والنفس شهوة المناصب، فوقعوا أسرى لها، فكان الواحد فاشلاً في رد نفسه إلى الحق، فضلاً عن أسرته وأولاده، فكيف يقوى على رد العالم كله إلى الحق؟!

وها هم اليوم جماعاتٌ متفرقةٌ انقسمت على نفسها، لا تتورع في تنقيص بعضها البعض، رؤوسٌ متناحرةٌ كلٌّ يدّعي الصواب إلى طرفه ويُخَطّئ ما سواه، بل ويُكَفّره، فكان منهم التكفيريّون الذين وجّهوا سهامهم لصدور أمتهم ونَسَوا أعداءهم.

ولئن كانت الأمور تُحسب بنتائجها، فما هي ثمرة أعمالهم اليوم؟ وماذا جلبت أفعالهم على المسلمين اليوم سوى مزيدٍ من التضييق والظلم داخلياً، وموجةٍ من الكره والتشويه لسمعة الإسلام داخلياً وخارجياً؟

لقد أعطَوا للعالم من حولهم ولأبناء أمتهم صورة قاتمة عن الإسلام، صوّروه عنفاً وشدةً، وأكثروا من الرهبة ونسَوا الرغبة، وشُنّت بسببهم على الإسلام العديد من الحروب الفكرية بل والعسكرية، حتى شارك في هذه الحروب أبناء الأمة نفسها، وظهر ما يسمى باليبرالية والعَلمانية في مواجهة الإسلام الحركي والحزبي، وإننا إذ نلوم هؤلاء الليبراليين العرب لشدة لهجتهم ضد الإسلام، ولكن ما كان لهم قول ما قالوه لولا ما انزلقت إليه أقدام هذه الأحزاب من أخطاء ووقعوا فيه من عثرات.

الإسلام يبني الفرد قبل الأمة، ويعمل على صنع الرجال قبل أن يبني لهم الأوطان، ماذا نصنع بوطن مسلم ليس فيه مسلمون؟ وهل وطن المسلمين إلا أرض الإسلام وساحته؟

لا يُطلب الأعلى إلا بعد تحقق الأدنى، ولا ينبغي القفز فوق الأسباب إلى النتائج ظنّاً منا بتحقيق النتيجة ستتوفر الأسباب، لئن كانت النتائج ذلك البناء فالأسباب هي قوائمه وأسسه، وهل لبناء خلا من الأسس أن يدوم؟ وهل لوطن إسلامي دوام إن كانت رعيته غير موقنة بأحقيته في الحكم.

إن منطق الإصلاح النبوي الاهتمام بالفرد والتركيز عليه إيمانياً وعقدياً وخُلُقياً، وما سعى رسول الله ﷺ لإقامة دولة الإسلام فور تلقيه الرسالة ليتمكن بعد ذلك من إصلاح الفرد، بل كان العكس هو الصحيح، الفرد وتربية الرجال أولاً بالحسنى والقول الحسن ((ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك)) [آل عمران 159]، والعمل على تزكية هذه النفس وتطهيرها من الأثرة والأنانية وحب الذات، وتوجيهها نحو السعي للنفع العام ومحبة الخير للناس أجمعين.

ولما تمكن الإيمان في نفوس أصحابه وبلغ فيهم مبلغاً عظيماً دفعهم إلى بذل النفس والمال في سبيل الله، وأُمروا بالهجرة إلى المدينة المنورة حيث أقام رسول الله ﷺ دولة الإسلام، ولذا قيل: “أقم دولة الإسلام في صدرك تقم لك على أرضك).

فهذا هو حال مسلمي الأحزاب والحركات، ابتُلوا بما ابتُلِيَت به السلفية من تشتت وافتراق، وظهر فيهم جيل بعد جيل لا يميزون العدو من الصديق، ولا المحب من المبغض.

ومع تأخر المسلمين وترنحهم خلت الساحة للمنافقين، فكان لهم في المسلمين المكر والخديعة، فنشطوا أيما نشاط، ودُعموا من القوى العالمية الكبرى حتى نهضت لهم دولة تسترت بتبنّي قضايا المسلمين، ورمت المسلمين بالخيانة والتراجع عن تحمل المسؤوليات، فخُدِع بها المسلمون وظنوا بها طريق النجاة والخلاص، ومن غباء البعض أنهم وضعوا أيديهم في أيديها ظنّاً منهم أنهم ينالون منها خيراً، فجعلتهم بيادق في يدها تستخدمهم لأغراضها التي ربطتها بأهداف دولة العدو الكبرى، مع أن الله عز وجل حذرنا من ذلك في عدة آيات.

قال تعالى: ((لا يتخذِ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تُقاة)) [آل عمران 28]، ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانةً مِن دونِكم لا يألونكم خبالاً ودّوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تُخفي صدورهم أكبر)) [آل عمران 118] ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودّة وقد كفروا بما جاءكم من الحق)) [الممتحنة 1].

وماذا بعد؟ هل ستبقى سهام الكفر تنال من نحور المسلمين؟ وهل ما تزال جيوشه تدك بلاد المسلمين دكاً أم أن العناية الإلهية ستسرع بالمن على الذين ما زالوا مستضعفين في الأرض؟

إن العالم الإسلامي اليوم يرنو ويتطلع إلى الخلاص، لقد مل السلفية الجامدة وأحزاباً وحركاتٍ ما أنتجت من بعدها للعالم الإسلامي إلا سوءاً وصورة سيئة.

إن العالم الإسلامي كله اليوم يتطلع إلى الدين الصافي الذي لم يتدنس بالأهواء والغايات الشخصية، والمسلمون اليوم يبحثون عن قائدٍ باع نفسه لله فيبيعون نفسهم له على السمع والطاعة .

أين سيرة السلف الصالح وأين قصص الصالحين وأحوالهم؟ المسلمون كلهم عند هذا التساؤل، هل مات هؤلاء أم استتروا فما عادت الأعين تراهم؟

لا، إنهم أهل الإيمان الخالص، مَن تحققوا بالإسلام ديناً حالاً وقالاً، إنهم قادة في حكمة، ورعية في طاعة، إنهم الصوفية الذين لا تجتمع وما اجتمعت إلا تحت رايتهم، وها هي طلائع نورهم تظهر من جديد، وإن غداً لناظره قريب.

لقد انكشف الزيف، وبانت الحقائق، وسقطت الأقنعة عن الوجوه، وبان عُوار الباطل، وسقطت كل الأطراف صرعى في المعركة، وبقي التصوف حياً تنبض به الحياة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

في حال كان لديك أي سؤال عن التصوف والصوفية يمكنك التواصل معنا، نرحب بجميع الأسئلة من أي طرف كانت!