حكم الاحتفال بمولد رسول الله ﷺ وأدلة مشروعيته

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الحمد للّه ربّ العالمين وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.

لقد كثر في هذا الزمان للأسف من ينكرون الاحتفال بمولد سيّدنا رسول الله ﷺ ويعتبرونه من الأمور التي ليست من الدين في شيء، وليس لهم دليلٌ في ذلك إلّا الفهم السقيم لأحكام هذا الدين ونصوصه وأحاديثه، إضافةً إلى تحكّمهم إلى هواهم ونفوسهم، مع أنّك لا تجدهم يُنكرون على الذين يحتفلون من المسلمين بالأعياد غير الإسلاميّة، ولا تسمع لهم صوتاً ولا إنكاراً عندما تحين هذه الأعياد، إن لم يكونوا يحتفلون بها أصلاً.

إنّ الاحتفال بهذه الأعياد غير الإسلامية إنّما يعتبر مظهراً من مظاهر الردة، وما ذلك إلّا لحديث النبي ﷺ: “من تشبّه بقومٍ فهو منهم”، ولا شك أنّ الاحتفال بعيد غير المسلمين يعتبر تشبّهاً بهم لأنّك تفرح بفرحهم وتُسرّ لسرورهم، فلم يعد هناك فارقٌ بينك وبينهم إلّا الاسم فقط.

الأدلة على جواز الاحتفال بمولد رسول الله ﷺ

إن إنكار الاحتفال بعيد مولد النبي ﷺ يدل كما ذكرت على الفهم السقيم لأحكام هذا الدين والانتصار للهوى والنفس، مع أن الأدلة صريحة وواضحة ولا لبس عليها تدل على جواز الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، منها:

أولاً: لقد كان رسول الله ﷺ يحيي بشخصه ذكرى مولده لا في كل عام مرة بل في كل أسبوع! وكان يعبر عن ذلك التعظيم بالصيام، فقد جاء في الحديث عن أبي قتادة أن رسول الله ﷺ سُئِل عن صيام يوم الاثنين فقال: “فيه ولدت وفيه أُنزل علي”، فكان صومه نوعاً من إحياء ذكرى مولده، وتوجيهاً إلى منزلة هذا اليوم، وحثاً لنا على الاهتمام بشأنه.

ثانياً: يقول الله عز وجل في كتابه: ((وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)) [الأنبياء 107]، وقال رسول الله ﷺ: “إنما بُعثت رحمة ولم أُبعث لعّاناً” ذكره السيوطي في الجامع الصغير، وقال أيضاً: “إنما أنا رحمةٌ مهداة” أخرجه الحاكم، فرسول الله ﷺ هو الرحمة العظمى، وقد أذن الله لنا بالفرح والسرور بمولد تلك الرحمة فقال تعالى: ((قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا)) [يونس 58].

قال السيوطي في تفسير هذه الآية ناقلاً عن سيّدنا ابن عباس رضي الله عنهما: “فضل الله العلم، ورحمته رسول الله ﷺ”، فإذا كان رسول الله ﷺ هو رحمة الله فلماذا لا نفرح بهذه الرحمة؟! وهذا دليل قاطع في جواز الاحتفال لمن فهم كلام الله تعالى.

ثالثاً: أن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف تعبيرٌ عن الفرح والسرور برسول الله ﷺ، وقد انتفع به الكافر أبو لهب، فقد جاء أنه يُخفَّف عن أبي لهب كل يوم اثنين بسبب عتقه لجاريته ثويبة لمّا بشرته بولادة رسول الله ﷺ، أخرجه البخاري والسهيلي في الروض الأنف.

وقال إمام القراء الجزري في كتابه عرف التعريف بالمولد الشريف: “وقد رُئِيَ أبو لهب بعد موته في النوم فقيل له: ما حالك؟ فقال: في النار إلا أنه يخفف عني كل ليلة اثنين بإعتاقي ثويبة عندما بشرتني بولادة النبي ﷺ وبإرضاعها له”.

فإذا كان أبو لهب الكافر الذي نزل القرآن بذمه يخفَّف عنه العذاب كل ليلة اثنين بسبب فرحه بمولد رسول الله ﷺ فما حال المسلم الموحد من أمّة رسول الله ﷺ الذي سُرَّ بمولده ويبذل ما تصل إليه قدرته تعبيراً عن محبته لرسول الله ﷺ لا شكّ أنه سيكون له اجر عظيم عند الله.

رابعاً: أخرج البخاري ومسلم أنّ رسول الله ﷺ لمّا وصل إلى المدينة ورأى اليهود يصومون يوم عاشوراء سأل عن ذلك فقيل له إنّهم يصومونه لأنّ اللّه نجّى فيه نبيهم سيّدنا موسى وأغرق فرعون وجنوده فهم يصومونه شكراً لله تعالى على هذه النعمة فقال رسول الله ﷺ: “نحن أولى بموسى منكم” فصامه و أمر بصيامه.

فصيام رسول الله ﷺ إنما هو فرح بنجاة سيّدنا موسى عليه السلام وإذا كان رسول الله ﷺ قد أمرنا بالصيام تعبيراً عن فرحنا أيضاً فكان فرحنا بمولد رسول الله ﷺ أولى كيف و هو أفضل من سيّدنا موسى عليه السلام.

خامساً: ولقد ورد من عدة طرق أنّ النبي ﷺ عقَّ عن نفسه بعد النبوّة مع أنّه قد ورد أنّ جده عبد المطلب عقّ عنه في سابع ولادته و العقيقة لا تُعاد ثانيةً فيُحمل على ذلك على أنّ الذي فعله النبي ﷺ إظهارٌ للشكر على إيجاده رحمةً للعالمين.

سادساً: أنّ الله سبحانه وتعالى يقول “ولتكن منكم أمّةً يدعون إلى الخير” فالدعوة إلى الاحتفال دعوةٌ إلى الخير، فهي هنا فرض كفاية وذلك لما اشتملت عليه هذه الاجتماعات من تلاوةٍ للقرآن وتسبيحٍ للّه وصلاةٍ على رسول الله ﷺ وذكر شمائله وصفاته ﷺ ممّا يزيد في محبة الحاضرين لهذه المجالس لسيّدنا رسول الله ﷺ.

سابعاً: ثمّ إنّ أمر الاحتفال بالمولد النبوي أمرٌ قد استحسنه العلماء و المسلمون في جميع البلاد الإسلامية وجرى به العمل في أغلب بقاع الأرض فهو مطلوبٌ شرعاً وذلك للقاعدة المأخوذة من حديث سيّدنا ابن مسعود الموقوف الذي ذكره أبو نعيم عن ترجمته قال: “ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، و ما رآه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح”.

هذا وكلّ ما ذكرته من الأدلة الشرعية على جواز الاحتفال بالمولد النبوي إنّما هو في الاحتفال أو الاجتماع الذي خلا من الأمور المخالفة للشريعة الإسلامية، أما الموالد التي تُقام وتشمل أموراً مخالفة للشريعة الإسلامية كاختلاط الرجال بالنساء أو استعمال الآلات الموسيقية فهو حرامٌ، وليس التحريم لإقامة المولد إنّما للأمور المخالفة التي اشتملت عليه والتي تحرم مهما كانت غايتها.

أقوال العلماء في مشروعية الاحتفال بالمولد الشريف

قال ابن تيمية رحمه الله: “فتعظيم المولد واتّخاذه موسماً قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجرٌ عظيمٌ لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله ﷺ” ذكره ابن تيمية في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم.

قال الإمام ابن حجر الهيثمي رحمه الله: ” الحاصل أنّ البدعة الحسنة متّفقٌ على ندبها وعمل المولد واجتماع الناس له كذلك -أي بدعة حسنة-“.

قال الإمام أبو شامة شيخ الإمام النووي رحمهما الله تعالى: “و من أحسن ما ابتُدع في زماننا ما يُفعل كلّ عامٍ في اليوم الموافق ليوم مولده ﷺ من الصدقات والمعروف وإظهار الزينة والسرور فإنّ ذلك مع ما فيه من الإحسان للفقراء مُشعرٌ بمحبّته ﷺ وتعظيمه في قلب فاعل ذلك”.

قال السيوطي رحمه الله: “هو من البدع الحسنة التي يُثاب عليها صاحبها لما فيه من تعظيم قدر النبي ﷺ وإظهار الفرح و الاستبشار بمولده الشريف ﷺ”.

قال الحافظ العراقي رحمه الله:”إنّ اتّخاذ الوليمة وإطعام الطعام مستحبٌّ في كلّ وقتٍ فكيف إذا انضم إلى ذلك الفرح والسرور بظهور نور سيّدنا رسول الله ﷺ في هذا الشهر الشريف ولا يلزم من كونه بدعةُ كونه مكروهاً فكم من بدعةٍ مستحبّةٍ قد تكون واجبة”.

قال ابن عابدين في شرحه على مولد ابن حجر : “اعلم أنّ من البدع المحمودة عمل المولد الشريف من الشهر الذي ولد فيه رسول الله ﷺ”.

الشبهات التي وردت حول الاحتفال بالمولد النبوي الشريف

إذا كانوا يعترضون على الاحتفال بعيد المولد ببعض الشبهات فاني أرد عليهم:

1- الاحتفال بالمولد لم يفعله السلف ولم يكن في الصدر الأول فهو بدعة محرمة؟

الجواب:

ليس كلّ ما لم يفعله السلف هو حرامٌ علينا فعله، ولو كان الأمر كذلك لحُرِّمَ علينا تصنيف العلوم و اتّخاذ المدارس والمستشفيات ودار اليتامى والسجون وكثيرٍ من أمور حياتنا.

فلذلك يجب علينا أن نعرض ما أُحدِثَ على أدلة الشرع فما اشتمل على مصلحةٍ فهو واجبٌ أو على محرّمٍ فهو محرّمٌ.

قال الإمام النووي رحمه الله: “البدعة في الشرع هي إحداثُ ما لم يكن في عهد رسول الله ﷺ وهي منقسمةٌ إلى حسنة وقبيحة و يدلّ على ذلك قول سيّدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما جمع الناس على إمامٍ واحدٍ في صلاة التراويح مع أنّه لم يكن على عهد رسول الله ﷺ، فنعمت البدعة هذه”.

2- إنّ قول القائل أنّ الاحتفال بعيد المولد نوعٌ من الإطراء و التقديس لرسول الله ﷺ ورسول الله ﷺ قال: ((لا تُطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنّما أنا عبد الله ورسوله))؟

الجواب:

إنّ هذا الاستدلال بالحديث غير صحيح لأنّ الإطراء المنهي عنه هو المشابه لإطراء النصارى أنّ المسيح هو ابن الله.

أمّا إطراء رسول الله ﷺ في الاحتفال بمولده فلا يعدو عن ذكر فضائله النبوية وأخلاقه المحمّديّة وقد مَدَحَ النبي ﷺ أناسٌ من الصحابة وأثنوا عليه في حياته ولم يُنكر عليهم النبي ﷺ ذلك.

بعد ذكر هذه الأدلة على جواز الاحتفال بعيد المولد نقول كما قال شيخ الإسلام البشر الطرّازي في تركستان رحمه الله: (إنّ الاحتفال بذكرى المولد الشريف أصبح واجباً أساسياً لمواجهة ما استجدَّ من الاحتفالات الضارّة في هذه الأيام).

والحمد لله رب العالمين وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

في حال كان لديك أي سؤال عن التصوف والصوفية يمكنك التواصل معنا، نرحب بجميع الأسئلة من أي طرف كانت!