الإجازة في الطريقة الشاذلية وأنواعها

الإجازة هي التفويض من قِبل المرشد لبعض تلامذته بتلقين جميع الأوراد أو بعضها تفويضاً قلبياً أو شفهياً أو كتابياً، مطلقاً في جميع الأوقات أو بعضٍ منها.

فقولنا “المرشد” إنما يراد به المرشد بالمعنى الخاص المعروف عند أهل الله بصفاته الوارث لسرّ شيخه، وهو أعلى رتبة من المأذون المجاز؛ لأنه يعد بمنزلة مُوَرّثه في تربية المأذونين المجازين، وهذا المقام لايخلو منه زمان ولا تجوز فيه المشاركة بين اثنين -كما سيتبين لنا بعد قليل- وأما الاذن والإجازة من غيره فلا يُعْتَدُّ بها عند المحقّقين من أهل الله إلا تبركاً (وما أكثرها في هذا الزمان).

وتفويض المرشد لا يكون باجتهاد شخصي من عنده بل بإشارة صريحة من الله ورسوله وأشياخه الذين يتصل عن طريقهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فالإذن بالأصل منهم وليس للمرشد إلا دور التبليغ.

وقولنا “بتلقين جميع الأوراد أو بعضها” إشارة إلى أن الإجازة قد تكون مطلقة شاملة لجميع الأوراد العامة والخاصة وقد تكون مقيدة بالأوراد العامة دون الخاصة وقد تكون مقيدة ببعض الأوراد العامة دون غيرها.

وقولنا “تفويضاً قلبياً أو شفهياً أو كتابياً” إشارة إلى الطريق الذي تنتقل الإجازة من خلاله للمأذون المجاز مع العلم أن أصل الإجازة معنىً يجده المأذون في قلبه، وليس للتصريح الخطي أو الشفهي أي أثر عليه سوى الدلالة على وجوده لمن ليس له قلب، وإلا فصاحب القلب يعلم حصول الإذن القلبي بقلبه ويكتفي به عن كل ما سوى ذلك.

وقولنا “في جميع الأوقات أو بعضٍ منها” إشارة أيضاً إلى أن الإجازة قد تكون مقيدة بزمن ما وقد تكون مطلقة في جميع الأزمان، فإذا كانت مقيدة صح العمل بها ضمن الزمن المحدد بخلاف المطلقة التي يُعمل بها في كل الأزمان.

أنواع الإجازة

تقسم الإجازة إلى أنواع بحسب حيثياتها؛ فهي تقسم من حيث الطريق الذي انتقلت من خلاله إلى إجازة خطية وإجازة شفوية وإجازة قلبية، وتقسم من حيث الإطلاق والتقييد إلى إجازة مقيدة بزمن وإجازة مطلقة في جميع الأزمان، وتقسم من حيث الشمول إلى إجازة عامة وإجازة خاصة وإجازة بالإرشاد، وسندرس كل قسم على حدى.

أولاً: أنواع الإجازة من حيث طريق انتقالها

تقسم الإجازة من حيث الطريق الذي انتقلت من خلاله إلى المأذون إلى:

إجازة خطية

وهي التصريح بتلقين الأوراد عن طريق الكتابة، ومن شروط قبولها أن تكون ممهورة بختم الشيخ يعين فيها شمولية الإجازة والأوراد التي يفوض المأذون بتلقينها، وإضافة الإجازة للكتابة إضافة مجازية و إلا فحقيقةً الإجازة هي الإذن والتفويض القلبي المسبوق بإشارة صريحة من الله ورسوله يعلم بها كلٌ من الآذن والمأذون، وما الكتابة إلا لإظهارها وإشهارها والدلالة عليها.

قال سيدي محمد الهاشمي في نص إجازته لسيدي عبد القادر عيسى رضي الله عنهما: “واعلم أن الإذن الحقيقي والإجازة الحقيقية هي ما حصل لكم من الإذن الشفهي الباطني والإجازة القلبية الحقيقية، فهي التي يُعْمَل بها، وهي التي تنفعل لها القلوب، وتنقاد لها النفوس، ولولا الضرورة لِما اعتاد عليه الناس من الإجازة بالكتابة، لَما كتب أهل الله إجازة لمأذون من الله ومن الرسول ثم منهم إجازة شفوية قلبية حقيقية” [حقائق عن التصوف صـ508].

وهذا النوع من الإجازة استعمله أهل الله في الإذن العام والخاص، ووُجِدت لهم فيه إجازات عديدة، ومن ذلك إجازة سيدي محمد الهاشمي قدس الله سره لسيدي عبد القادر عيسى قدس الله سره بالوردين العام والخاص، وإجازته هو نفسه لعدد من المريدين بذلك أو بالورد العام فقط.

إجازة شفوية

وهي التصريح مشافهة لبعض المريدين بتلقين الأوراد، والاكتفاء بذلك عن الكتابة، وجعل هذا التصريح بمنزلة الكتابة، وبالطبع يجب أن يكون للإذن الشفوي حالٌ يثبت به المأذون صحة إذنه، وكما قلنا في الإجازة الخطية نقول هنا: إن الإذن الحقيقي هو الإذن القلبي وما المشافهة إلا إعلامٌ به ودلالةٌ عليه.

ومن هذا النوع جميع إجازات سيدي أحمد بن مصطفى العلاوي قدس الله سره للمأذونين منه الذين بلغوا العشرات وهم منتشرون في كل البلاد حتى الآن.

الإجازة القلبية

هي أصل كل الإجازات وأساسها، وهي الدليل والبرهان على صدق كل من الإجازتين الخطية والشفهية، وقد ذِكرُ أعلاه أن أصل الإجازتين السابقتين كان بالقلب، وما الكتابة والمشافهة إلا علامة لإظهارها والدلالة عليها، وإن نسبة الإجازة إلى الكتابة والمشافهة نسبة مجازية لكون كل منهما طريق لإظهارها.

ولِما كان للإجازة القلبية من أهمية فقد عول عليها جميع أهل الله وأشاروا إليها حتى في إجازاتهم الخطية والشفوية، وجعلوا مردّ كل الإجازات إليها، فهي الأصل الذي تبرز منه جميع الإجازات، ولولاها لما كانت إجازة شفوية ولا خطية.

قال سيدي محمد الهاشمي رضي الله عنه: “واعلم بأن الإذن الحقيقي والإجازة الحقيقية هي ما حصل لكم من الإذن الشفهي الباطني والإجازة القلبية الحقيقية”، ولولا كون الإجازة القلبية أصلاً لما أشار إليها في الإجازة الخطية، والإجازة القلبية قد تكون بالورد العام والخاص بالإضافة إلى الأجازتين السابقتين، ولكنها الطريق الوحيد الذي لم يُعرف غيره للإجازة بالإرشاد.

وقد يقال أن اعتماد الإجازة القلبية يجعلها ذريعة لكل مدّعٍ ودخيل مما يؤدي إلى اختلاط الأمر على الناس وضياع الحقائق، والجواب على ذلك من ثلاثة أوجه هي:

الوجه الأول: إن الاعتراض لا يصدر من رجل صاحب قلب منور وبصيرة نافذة، فأرباب القلوب يميزون الصادق من الكاذب، ويعرفون المدعي من المتحقق، فلو قام من قام وادعى أنه مأذون فستفضحه شواهد الامتحان وسينفر منه كل الناس حتى أقرب المقربين منه، قال سيدي محمد الهاشمي قدس الله سره: “من تعرض للمشيخة من غير إذن مفتون ومغرور ومغبون يُخشى عليه سوء الخاتمة” [شرح شطرنج العارفين صـ48]، أما الصادق فسترى لدعواه نوراً وحالاً يدل على صدقه فيما ادعى، ومتى كان في مقدور أحد التصنع في الإرشاد والتسليك حتى يُقال اعتماد الإجازة القلبية يفتح الباب أمام الأدعياء؟!

إذا كان للمريد أدنى مَلَكة من الصدق نفر من الأدعياء وحمله صدقه على تركهم، وأما أن نجعل الإجازة محصورة في الكتابة ثم نضرب عرض الحائط بمن ادعاها من غير إجازة خطية دون النظر في حاله فما بهذا أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما سئل أي جلسائنا خير قال: “من ذكركم الله رؤيته، وزاد في علمكم منطقه، وذكركم الآخرة عمله” [رواه أبو يعلى كما في مجمع الزوائد (10/266)]، ولم يقل من وجدتم معه ورقة.

وحينما حدد سيدي ابن عطاء الله السكندري قدس الله سره صفات المرشد لم يأت على ذكر الإجازة الخطية إطلاقاً، وإليك كلامه: “ليس شيخك من سمعت منه، إنما شيخك من أخذت عنه، وليس شيخك من واجهتك عبارته، إنما شيخك الذي سَرَت فيك إشارته، وليس شيخك من دعاك إلى الباب، إنما شيخك الذي رفع بينك وبينه الحجاب، وليس شيخك من واجهك مقاله، إنما شيخك الذي نهض بك حاله، شيخك هو الذي أخرجك من سجن الهوى ودخل بك على المولى، شيخك هو الذي مازال يجلو مرآة قلبك حتى تجلت فيها أنوار ربك، أنهضك إلى الله فنهضت إليه، وسار بك حتى وصلت إليه، ومازال محاذياً لك حتى ألقاك بين يديه، فزج بك في نور الحضرة وقال لك ها أنت وربك” [لطائف المنن صـ167].

فلو رأينا هذه الصفات متأصلة في إنسان أظن أنه من الغباوة بمكان أن نسأل بعد ذلك عن الورقة، وسيدي ابن عطاء الله السكندري قدس الله سره لم يشر إليها أدنى إشارة، وحينما حدد -رحمه الله- طريق معرفة المرشد لم يقل ابحث عمن تجد عنده ورقة، بل دل المريد على الطريق الطبيعي للوصول إلى المرشد حينما قال: “لا يعوزك قلة الدالين إنما يعوزك الصدق في طلبهم، جد صدقاً تجد مرشداً” [المرجع السابق].

وما عسى المريد أن ينتفع إن أجلسته عند مرشد الورقة إن لم يكن عنده صدق، فطريق معرفة سر الإرشاد ليس الإجازة الخطية، وإنما صدق المريد في بحثه عنه وطلبه له، وإذا عرفنا ذلك تلاشت دعوى من قال بأن اعتماد الإجازة الخطية يفتح باب الادعاء في الطريق، فالصدق هو المعيار الشرعي للصحبة ((اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)) [التوبة 119] وليس الإجازة الخطية.

الوجه الثاني: إن المستقرئ لسيرة حياة رجال الطريق جميعاً يرى أن انتقال إذن الإرشاد فيما بينهم كان عن طريق الإجازة القلبية البحتة ولن يعثر على أي إجازة خطية، وإنه يرى فوق ذلك أن جميع رجال الطريق من جراء ذلك قد ابتلاهم الله بإنكار المنكرين في بدء دعوتهم، ولقد كان من جملة هؤلاء المنكرين إخوانهم في الطريق عند شيوخهم، وأقرب مثال على ذلك شيخنا رحمه الله سيدي عبد القادر عيسى قدس الله سره مع أنه كان مجازاً إجازة خطية بالوردين العام والخاص، فكم عوديَ وأُنْكِرَ عليه حتى من أتباع سيدي محمد الهاشمي قدس الله سره وما تبعه أحد منهم إلا نفراً قليلاً.

وقل القول نفسه في سيدي محمد الهاشمي قدس الله سره فما رأينا أحداً قدم من الجزائر يقول إن الشيخ العلوي قدس الله سره قد أوصانا بالسلوك عند السيد محمد الهاشمي قدس الله سره، بل قام بنشر الطريق من جديد في بلاد الشام، وأتباع سيدي ابن عليوة إلى اليوم في الجزائر لهم طريقتهم وورّاثهم الذين لا صلة لهم بسيدي محمد الهاشمي، وسيدي البوزيدي رحمه الله ما أشار أبداً لمن بعده، وهو إنما يتصل من سيدي الدرقاوي رحمه الله (الطريقة المشهورة في المغرب) سند غريب جداً.

ولم أجد إلى الآن ترجمة واحدة لوارث سيدي الدرقاوي الحقيقي سيدي أبو يعزى المهاجي ممن كتبوا عن الطريقة الدرقاوية فضلاً عن أن يشيروا إلى أنه وارث الطريقة، على العكس تماماً إن سيدي محمد الفاسي خليفة سيدي محمد ظافر المدني قد ادعى في كتابه (الفتوحات الربانية في تفصيل الطريقة الشاذلية) وراثة سر الإرشاد لشيخه المذكور، وقد أثبتت الأيام أن الوارث الحقيقي هو سيدي أبو يعزى الذي أقامه الله بالخفاء، مع العلم أن الشيخ محمد الفاسي الذي أخذ الطريق عن غير المرشد من شهرته أنه كان رئيساً للمؤتمر الصوفي العالمي الذي كان له الفضل في تأسيسه، وهو نفسه شيخ الأمير عبد القادر الجزائري والشيخ يوسف النبهاني!! له كل هذه الشهرة وسيدي أبو يعزي الوارث الحقيقي لا ذكر له في كتب الدرقاويين، ولم يشهره إلا سيدي العلاوي الذي كتب له الله الظهور ثانية بعد قرن من الزمن ليقول: “بعد الدرقاوي خَلَّفَهُ الله”.

وسيدي العلاوي رحمه الله كم كان له مع اليشرطية ممن أخذوا الورد منه مع أنهم ورثوا الطريقة الدرقاوية من جهة أخرى، فلم يوافق على حالهم ونهاهم عن كثير من الشطح المرفوض شرعاً، وقبل سيدي الدرقاوي رحمه الله قل القول نفسه في الزرّوقي والوفائي والشاذلي الأكبر رضي الله عنهم أجمعين، ولو كان كل مرشد يدل على وارثه بإجازة خطية لما وجدت إلى اليوم طريقة زروقية ووفائية ودرقاوية وعلاوية قد تفرعت من الجذع الأساسي لشجرة الإرشاد.

و الطريقة القادرية وبقاؤها إلى هذا اليوم أكبر دليل على أن سيدي عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه لم يكن له أي إشارة لوارثه من بعده، وإن أتباعه مستمرون إلى هذا اليوم على تعاليم شيخهم رضي الله عنه، أما سر الشيخ فقد ذهب مع المريد الصادق والوارث الأوحد له سيدي شعيب أبو مدين إلى المغرب ليقوم به سيدي أبو الحسن الشاذلي بعد قرن من الزمن بطريقة استقلت باسم الطريقة الشاذلية، ولو أشار سيدي القادري لوارثه من بعده لانتقل أتباع طريقته إلى سيدي أبو مدين جميعاً ولم نعلم في التاريخ ذلك.

بل إننا لنرى في السند أغرب من هذا كله، فقد قال سيدي الشعراني في كتابه “الطبقات الكبرى” جـ2/صـ16 عن سيدي محمد وفا رضي الله عنه: “ولمّا دنت وفاته خلع منطقته على الأبزاري صاحب الموشحات وقال هي وديعة عندك حتى تخلعها على ولدي علي، فعمل أيام كانت المنطقة عنده الموشحات الظريفة إلى أن كبر سيدي علي فخلعها عليه ثم رجع لا يعرف يعمل موشحات”، وتذكر كتب التراجم أن وفاة سيدي محمد وفا كانت سنة 765 هـ وأن ولادة ابنه علي رضي الله عنهما كانت 759 هـ، أي كان ابن ست سنين حين وفاة أبيه ومورّثه، ولا يوجد في السند بينهما أحد، فأين موضع الإجازة الخطية هنا لابن ست سنين؟ إنما كانت إجازة قلبية ربانية ظريفة طريفة من نوعها انتقلت عن طريق المنطقة (يبدو أنها نطاق كان يشده على وسطه)، بل لا تقُل منطقة ولا إجازة خطية ولكنها خصيصة ربانية، فمن اختصه الله أعطاه، وحمل إليه من اختصه للأخذ عنه، ولا يُعرف هؤلاء إلا بالصدق، فلنكف الكلام ولنلتفت للعمل ولنحسن الظن بجميع عباد الله.

الوجه الثالث: إن اعتماد الإجازة الخطية لا يفتح باب الادعاء في الطرق بل -على العكس- إن التعويل على الإجازة الخطية هو ما يفتح باب الادعاء في التصوف…؟؟! نعم، وهل يعاني التصوف من الأدعياء ما يعانيه من حملة الإجازات الخطية التي صرفت أنظار الناس عن حقيقة الإجازة، وجعلت همهم مصروفاً إلى الحبر والورق ليجلسوا عند من صدّر جدار زاويته بإجازة ممهورة بخاتم كان ثمنه مائدة طعام أو بعض دريهمات قدمها المريد لشيخه فحظي بإجازة خطية خدع بها كل من تبعه وطال جلوسه عنده، ينتظر الفتح ليصل ولن يصل إلا للخرابات.

وإنا لنعلم عن هذه الإجازات الكثير ممن انحرف عن الشرع ومرق عن الطريق وولع بالدنيا والإجازة الخطية قد علقت على جدار زاويته، أي اجازة هذه؟! والله ثم والله ما ضر التصوف إلا اعتماد الإجازة الخطية التي خدعت المريدين، وكلما هم المريد الصادق بالخروج على شيخه المأذون خطياً قوبل بالرد الشديد “هل شيخك مأذون؟” ولا أدري هل غدت الإجازة الخطية براءة من النار أم براءة من النفاق؟! وهل صار حاملها معصوماً أو آمناً من مكر الله؟! وقد قال تعالى: ((فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون)) [الأعراف 99].

وإني لأقولها بصراحة ما ضر أهل التصوف إلا هذه الشكليات والتعويل على فن الاستخارة الذي دفعهم إلى انتقاص المسلمين واستباحة أعراضهم وغيبتهم، يا أشباه الصوفية ولا صوفية، يا من تنامون أكثر مما تأكلون وتشربون أكثر مما تأكلون ولا ربكم تذكرون، لو قرأتم سيرة أسلافكم لأدركتم أن التصوف عنكم بعيد كبعدكم عنه، ولولا أنكم كذلك لما سلط الله عليكم من ينهشكم من كل جانب، كفّو ألسنتكم عن اللغو وأقبلوا على ربكم بصدق، يا من تنتسبون إلى الجنيد والجيلاني والشاذلي والبسطامي ما كانوا هكذا والله كان أدبهم مع كل المسلمين كأدبهم مع أشياخهم.

ثانياً: أنواع الإجازة من حيث الإطلاق والتقييد

تقسم الإجازة من هذه الحيثية إلى:

  1. إجازة مقيدة بوقت؛ كيوم كذا أو سنة كذا، أو وقتٍ مضافٍ إلى مكانٍ كمدة إقامتك بمكان كذا، فيجيز المرشد لبعض تلامذته بتلقين الورد العام لهذه المجموعة بعينها، فيكون إذنه قاصراً على ما حدده المرشد له، ولا يعد مخولاً بتلقين غيره.
  2. اجازة مطلقة عن الزمان والمكان؛ ككتابة المرشد إجازة لبعض تلامذته أو إجازته مشافهةً بتلقين الأوراد من غير تقييدها بزمان أو مكان معين.

ثالثاً: أنواع الإجازة من حيث الشمول

تقسم الإجازة من هذه الناحية إلى:

  1. إجازة مقيدة ببعض الأوراد تدعى بالإذن العام، وتضم هذه الإجازة جميع الأوراد والأحزاب التي تُقرأ في الطريقة الشاذلية، ومنها الورد العام وحزب البحر والوظيفة الشاذلية وأحزاب سيدي الشاذلي الأخرى.
  2. إجازة مطلقة شاملة للوردين العام والخاص المعروف عند أهل الله بشروطه وهو ذكر لفظ الجلالة (الله).

والذي يدل على هذا التقسيم نص إجازة سيدي محمد الهاشمي لسيدي عبد القادر عيسى قدس سرهما فقد جاء فيها: “فإني لهذه المناسبة أذنت وأجزت أفراداً من إخواننا في طريقتنا الشاذلية الدرقاوية العلية لما تفرّسته في أخلاقهم، واعتمدته من أحوالهم، إذناً عاماً مطلقاً في سائر الأوراد والأحزاب الشاذلية، وفي الورد الخاص، الذي هو ذكر الاسم المفرد (الله) الذي هو الاسم الأعظم عند أهل الله، بشروطه المعروفة عندهم” [حقائق عن التصوف صـ507].

ففي قوله “مطلقاً” إشارة إلى أن الإذن كما يكون مطلقاً في كل الأوراد والأوقات يكون مقيداً ببعضها، وفي تخصيص ذكره للورد الخاص دليلٌ على أن الإجازة بالإذن العام تكون قاصرة على الأوراد والأحزاب باستثناء تلقين لفظ الجلالة الذي يحتاج إلى إذن خاص.

ففي هذا النقل دليل على أن الإجازة قد تكون مقيدة ومطلقة، فقد تكون بالورد العام فقط، وقد تشمل كلاً من العام والخاص، وكلٌ من هاتين الإجازتين قد تكون بالكتابة وقد تكون بالمشافهة وربما كانت إشارة قلبية وقد ذكرنا ذلك.

أما الإجازة بالإرشاد فهي خصيصة إلهية واصطفاء رباني لا إرادة للبشر فيها، بل هي سر وأمانة يستودعها الله عند من يشاء من عباده، ولا يزال يحملها من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل عن رجل حتى يسلمها آخرهم للمهدي عليه السلام، وهذه الإجازة مما اختُصّت به الطريقة الشاذلية دون غيرها (انظر الفتوحات الربانية في تفصيل الطريقة الشاذلية لمحمد الفاسي)، وحاملها هو المعروف بالقطب الغوث عند أهل الله، فإذا مات حاملها نقلها الله إلى من بعده، وربما عرف حاملها لمن تكون من بعده وربما لم يعرف، فهي ليست بإجازة -وإن كنا قد سميناها إجازة تجاوزاً- بل هي سر وأمانة لا يُنقل إلا بعد وفاة حامله، ولا تجوز فيه المشاركة بين اثنين في زمن واحد.

وهذا معنى قوله تعالى: ((إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان)) [الأحزاب 72]، ومعنى قوله أيضاً: ((وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)) [البقرة 30]، وقوله: ((يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض)) [ص 26]، وقوله: ((إن إبراهيم كان أمة)) [النحل 120]، وقوله: ((وكلَّ شيء أحصيناه في إمام مبين)) [يس 12].

وما خلت الأرض من واحد من هؤلاء إلا في زمن الفترة بين سيدنا عيسى ونبينا محمد صلى الله عليهما وسلم، ومن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حملها الخلفاء الراشدون، ثم انفصلت عن الملك ليحملها الأحق بها في كل عصر، لتظهر في كل مئة عام بمجدد حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه: “إن الله يبعث على رأس كل مئة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها” [رواه أبو داود].

وقد حملها سيدي أبو يزيد البسطامي إلى أن كانت في الإمام الجنيد، ثم في سيدي الجيلاني، ثم في سيدي أبي الحسن الشاذلي، ومن بعده ظهرت في سيدي أحمد زروق، ثم في سيدي يوسف الفاسي، ثم في سيدي الدرقاوي، ثم في مجدد القرن الماضي سيدي أحمد بن عليوة، وحملها من بعده سيدي محمد الهاشمي، ثم سيدي عبد القادر عيسى رضي الله عنهم أجمعين.

قال سيدي أبو العباس المرسي في مكاتباته لبعض أصحابه بتونس: “فإني صحبت رأساً من رؤوس الصديقين، وأخذت سراً لا يكون إلا لواحد بعد واحد، وبه أفتخر وإليه أنتسب، وهو سيدي أبو الحسن الشاذلي” [المفاخر العلية في المآثر الشاذلية صـ24]، ولهذا فإن هذه الإجازة -وقد سميناها إجازة تجاوزاً- هي سر وأمانة إلهية لا تكون إلا قلبية محضة، فالمتتبع لأخبار رجال الطريق يرى أنه من النادر العثور على تصريح شفوي من المرشد السابق لمن يخلفه في مقامه، بل هي إشارات، وربما أيضاً لا تكون.

فسيدنا الهاشمي اكتفى بالإشارة، وهي نعته سيدي عبد القادر بقوله “ولي الله” في إجازته الخطية بالوردين العام والخاص، وأما سيدي ابن عليوة فلم يكن له أدنى إشارة لسيدي محمد الهاشمي، فالمستقرئ لسيرة سيدي ابن عليوة وسيرة سيدي محمد الهاشمي يرى أنه من المستبعد جداً أن يكون هو خليفته، فقد كان في دمشق وسيدي ابن عليوة في تلمسان الجزائر، ولم يسافر سيدي محمد الهاشمي بعد قدومه منها مع شيخه الأول سيدي ابن يلس إلى تلمسان قط، وما كان لقاؤه مع سيدي ابن عليوة إلا مرتين، الأولى أثناء قدومه إلى فلسطين زائراً للمسجد الأقصى، والثانية كانت قدوماً خاصاً لسيدي المرشد الكبير أحمد بن عليوة للمريد الصادق سيدي محمد الهاشمي، حيث قصد زيارته في دمشق وهو في طريقه إلى الحج، وفيها نال سيدي محمد الهاشمي ما لم ينله أي مريد في تلمسان.

انظروا إلى الصدق، فالطريق لمن صدق لا لمن سبق، بل إني حينما أقرأ في سيرة سيدي ابن عليوة بقلم خليفته –كما سمي في تلمسان– سيدي الشيخ عدة بن تونس، فإنه يذكر أكابر مريدي سيدي ابن عليوة ولا يذكر سيدي محمد الهاشمي إلا في جزء من صفحة (راجع كتاب “الروضة السنية” صـ130)، وما عهد عن سيدي ابن عليوة أنه صرح أو قال بأن المرشد من بعده هو سيدي محمد الهاشمي، وما سمعنا ممن هم في الجزائر أنه أوعز إليهم السفر إلى سفح قاسيون حيث يقيم المتواضع المرشد سيدي محمد الهاشمي، إنه تقدير العزيز العليم.

وليس بينك وبين مصداق كلامي إلا أن نفتح الإنترنت على موقع الطريقة العلاوية لترى كيف أن أتباع سيدي ابن عليوة قد غدت لهم طريقة ومرشدون خاصون بهم، وسميت فيما بعد بالطريقة العلاوية، ولكن أين سر العلاوي؟ إنه عند سيدي محمد الهاشمي.

وسيدي ابن عليوة لم ينج من هذا إلا الاختلاف فيه، وما كتاب “الشهايد والفتاوي فيما صح لدى العلماء من أمر سيدي العلاوي” إلا أكبر دليل على ما أقول، بل إن سيدي ابن عليوة لم تتم إجازته بالإرشاد إلا مناماً، بل أقول أشير إليها مناماً وإلا فهي هي الإجازة القلبية التي يدركها ويعرف مذاقها من حملها.

جاء في كتاب “الروضة السنية في المآثر العلاوية” لسيدي عدة بن تونس المستغانمي رحمه الله ما نصه: “توفي الشيخ سيدي محمد بن الحبيب البوزيدي رضي الله عنه سنة 27 أكتوبر 1909، ولم يصرح لأحد بالخلافة لمن يأتي بعده، صوناً لسر الطريقة، وحرصاً على الأدب مع الله، وقد سُئل في ذلك من بعض أعيان تلامذته ممن كان يظن في نفسه خيراً ويرى فيها الكفاءة للقيام بشؤون النسبة من تربية وتذكير، فأجابه رضي الله عنه قائلاً: مَثَلي كمثل رجل كان مستقراً في دارٍ لصاحبها، ولما أراد الخروج منها رجع مفاتيحها إلى صاحبها، وصاحبها هو الذي أدرى بمن يليق متصرفاً بداره، وليس لي الآن من الأمر شيء ((والله يخلق ما يشاء ويختار))” [الروضة السنية في المآثر العلاوية صـ164].

وجاء فيه بعد ذلك “حتى رأى الأستاذ –ويقصد سيدي ابن عليوة– عن نفسه رضي الله عنه قال ما نصه: قبل وفاة أستاذنا سيدي محمد البوزيدي رضي الله عنه بأيام، رأيت نفسي جالساً، وإذا بداخل علي، فقمت إجلالاً له لما لحقني من هيبته، وبعدما أجلسته جلست بين يديه، فظهر لي أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى خاطبني قائلاً: ألم تعلم لأي سبب جئتك؟ فقلت: لا أدري يا رسول الله! فقال لي: إن سلطان الشرق قد توفي، وستكون أنت إن شاء الله سلطاناً بدله، فما تقول؟ فقلت: إذا توليت أمر ذلك المنصب فمن ذا الذي ينصرني؟ ومن ذا الذي يتبعني؟ فأجاب عليه الصلاة والسلام: أنا معك وأنا أنصرك، ثم سكت” [الروضة السنية في المآثر العلاوية صـ165 وما بعدها].

فهؤلاء ثلاثة كما ذكرت من آخر رجال السند تمت الإجازة بالإشارة لهم قلبياً، ولو مشيت معك إلى آخر السند لرأيت أن جميع رجال الطريقة قد أُذِنوا على هذا النحو، فإنه حتى سيدي عبد القادر عيسى لم يؤذن بالإرشاد كتابة لأن إجازته الخطية كانت بالعام والخاص فهل إذنه بهما فقط؟؟ لا، بل إذنه بالإرشاد كان إذناً قلبياً، ولعله أشار إلى هذا المعنى حينما قال: “وقد أذن لنا رحمه الله تعالى قبل رحيله عن دار الدنيا بالورد العام والخاص، والتربية والإرشاد” [حقائق عن التصوف صـ505] فإنه أضاف إذنه إلى ساعات ما قبل وفاته وليس إلى تاريخ إجازته الخطية ولولا وجود شيء زائد على ما في الإجازة الخطية لما جعل وقت ما قبل الوفاة هو وقت إذنه وإجازته.

وكذلك سيدي عبد القادر عيسى رحمه الله لم يأذن لأحد بالإرشاد إجازة خطية ولا حتى شفوية، بل أرسل أكابر تلامذته له رسالة قبل وفاته تتضمن عدداً من الأسئلة، وفيها سؤالهم لمن تترك المريدين من بعدك، فأجابهم على كل أسئلتهم ما عدا هذا السؤال،
ولقد سُئل هذا السؤال من أحد الأحباب فقال: لقد أذنت بالوردين العام والخاص لكثيرين، ولا عبرة بهذا، وإنما العبرة بالإرشاد، وهو أمانة، ولا أضعه إلا حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكأن قصص هؤلاء الرجال -وخاصة منهم سيدي ابن عليوة قدس الله سره- تتكرر في هذه الأيام مع سيدي محمد مضر مهملات حفظه الله، فكما أُنكر عليهم ورُد ادعاؤهم بالوراثة، فإنه اليوم يُنكر عليه أشد الإنكار، ولكن صاحب الصدق والذوق الصافي لن يقول غير ما نقول بأن الوارث للإرشاد من بعد سيدي عبد القادر عيسى رحمه الله هو سيدي محمد مضر مهملات حفظه الله الذي أُذن منه بالعام والخاص أمام ستة عشر شاهداً، وقال له: “أذنتك بكل ما أذن لي سيدي محمد الهاشمي”، وقد أعطى الأوراد في جامع العادلية على حياة شيخه، ولم يبايع سيدي عبد القادر على بيعته، بل كان يقول: “من أخذ من سيدي مضر كمن أخذ مني”، ولقد قال له قبيل يقظة الوفاة: “الأمانة عندك، أنت بدالي، أنت مكاني، أنت موضعي، أنت آخر الرجال بعدي، لن أرحل حتى أسلمك الأمانة ياسيدي” فكان ذلك له إجازة حقيقية قلبية بالإرشاد، فحصل بذلك سيدي محمد مضر مهملات حفظه الله على الإذن بالورد العام والخاص مشافهة، والإرشاد قلباً وحقيقة، وقد صدق سيدي ابن عليوة إذ قال:
وبعد وفاة الشيخ يظهر كمثله… فهذه سنة الله جرت فلا بدلا

وأختم قولي بما قال سيدي محمد الهاشمي قدس الله سره في نص إجازته لسيدي عبد القادر عيسى قدس الله سره: “واعلم أن الإذن الحقيقي والإجازة الحقيقية هي ما حصل لكم من الإذن الشفهي الباطني والإجازة القلبية الحقيقية، فهي التي يُعمل بها، وهي التي تنفعل لها القلوب، وتنقاد لها النفوس، ولولا الضرورة لِما اعتاد عليه الناس من الإجازة بالكتابة، لَما كتب أهل الله إجازة لمأذون من الله ومن الرسول ثم منهم إجازة شفوية قلبية حقيقية” [حقائق عن التصوف صـ508].
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

في حال كان لديك أي سؤال عن التصوف والصوفية يمكنك التواصل معنا، نرحب بجميع الأسئلة من أي طرف كانت!