التسلسل
مقام التوبة
- طباعة
- 12 Feb 2010
- مواضيع مختارة
- 4376 القراءات
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين....
التوبة: رجوع عما كان مذموماً في الشرع إلى ما هو محمود فيه، وهي مبدأ طريق السالكين ، ومفتاح سعادة المريدين ، وشرط في صحة السير إلى الله تعالى.
قال تعالى : ( وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون ) [النور:31]
وقال تعالى: (استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) [هود:52]
وقال تعالى: ياأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا) [التحريم:8]
وكان الرسول المعصوم عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يجدد التوبة ويكرر الاستغفار تعليماً للأُمة وتشريعاً: عن الأغر بن يسار المُزني رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم)) : يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه ، فإني أتوب في اليوم مائة مرة)) (رواه مسلم في صحيحه في كتاب الذكر).
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى:( التوبة واجبة من كل ذنب ، فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي ، فلها ثلاثة شروط:
أحدها: أن يقلع عن المعصية.
والثاني: أن يندم على فعلها.
والثالث: أن يعزم أن لا يعود إليها أبداً
فإن فقد أحد الثلاثة لم تصح توبته. وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فشروطها أربعة : هذه الثلاثة، وأن يبرأ من حق صاحبها. فإن كانت مالاً أو نحوه رده إليه، وإن كان ] أي حق الآدمي[ حدَّ قذف ٍونحوه مكنه منه أو طلب عفوه،وإن كانت غيبة استحلَّه منها.ويجب أن يتوب من جميع الذنوب) (رياض الصالحين ص10).
ومن شروط التوبة ترك قرناء السوء ، وهجر الصحاب الفسقة الذين يحببون للمرء المعصية ، وينفرونه من الطاعة، ثم الالتحاق بصحبة الصادقين الأخيار ، كي تكون صحبتهم سياجاً يردعه عن العودة إلى المعاصي و المخالفات.
ولنا عبرة بالغة في الحديث الصحيح المشهور الذي روى لنا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قصة قاتل المائة الذي أرشده أَعْلمُ أهل زمانه إلى أن الله يقبل توبته ، واشترط عليه أن يترك البيئة الفاسدة التي كان لها الأثر الكبير في انحرافه وإجرامه ، ثم أشار عليه أن يذهب إلى بيئة صالحة فيها أُناس مؤمنون صالحون ليحبهم ويهتدي بهداهم.
والصوفي لا ينظر إلى صغر الذنب ، بل ينظر إلى عظمة الرب،إقتداء بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد كان أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: ( إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا نعدُّها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات . قال أبو عبد الله : يعني ذلك المهلكات) (رواه البخاري في صحيحه في كتاب الرواق عن أنس رضي الله عنه) .
ولا يقف الصوفي عند التوبة من المعصية ، لأنها في رأيه توبة العوام ، بل يتوب من كل شيء يشغل قلبه عن الله تعالى ، وإلى هذا أشار الصوفي الكبير ذي النون المصري رضي الله عنه لما سئل عن التوبة فقال: ( توبة العوام من الذنوب ، وتوبة الخواص من الغفلة) ( الرسالة القشرية- باب التوبة ص47) .
ويقول عبد الله التميمي رضي الله عنه: ( شتان بين تائب وتائب... فتائب يتوب من الذنوب والسيئات ، وتائب يتوب من الزلل و الغفلات، وتائب يتوب من رؤية الحسنات والطاعات ) ( الرسالة القشرية- باب التوبة ص47) .
واعلم أن الصوفي كلما صحح علمه بالله تعالى ، وكثر عمله دقت توبته؛ فمن طهر قلبه من الآثام والأدناس و أشرقت عليه أنوار الإيناس لم يخْفَ ما يدخل قلبه من خفي الآفات ، وما يعكر صفوه حين يهم بالزلات ، فيتوب عند ذلك حياء من الله الذي يراه.
ويستتبع التوبة الإكثار منه الاستغفار آناء الليل وأطراف النهار ، وهذا يشعر الصوفي بالعبودية الحقة والتقصير في حق مولاه . فهو اعترف منه بالعبودية وإقرار بالربوبية.
يقرأ الصوفي في كتاب الله تعالى (استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا* ويمدكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا) [نوح:10-12]
وقوله تعالى: ( إن المتقين في جنات وعيون * آخذين ماآتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين * كانوا قليلا من الليل مايهجعون* وبالأسحار هم يستغفرون ) [الذاريات:15-18]
يقرأ الصوفي هذه الآيات وغيرها ، فيذرف الدمع أسفاً على ما قصر في حياته ، وحسرة على ما فرط في جنب الله . ثم يلتفت إلى عيوبه فيصلحها وإلى تقصيراته فيتداركها وإلى نفسه فيزكيها ، ثم يكثر من فعل الطاعات والحسنات عملاً بقوله عليه الصلاة والسلام : ((وأَتْبِعِ السيئة الحسنةَ تمحها)) .
قال الشيخ أحمد زروق في قواعده :( تعتبر دعوى المدعي نتيجة دعواه، فإن ظهرت ْ صحَّتْ ، و إلا فهو كذاب ، فتوبة لا تتبعها تقوى باطلة ، وتقوى لا تظهر بها استقامة مدخولة ، واستقامة لا ورع فيها غير تامة ، وورع لا ينتج زاهداً قاصر، وزهد لا يشيد توكلاً يابس ، وتوكل لا تظهر ثمراته بالانقطاع إلى الله عن الكل واللَّجَأِ إليه صورة لا حقيقة لها ، فتظهر صحة التوبة عند اعتراض المُحَرَّم،وكمالُ التقوى حيث لا مُطَّلِع إلا الله ، ووجود الاستقامة بالتحفظ على إقامة الورد في غير ابتداع ، ووجودُ الورع في مواطن الاشتباه فإن تَرَك فكذلك، و إلا فليس هنالك)