يجب على السالك إلى اللَّه، الباغي إلى طريق الرشاد سبيلاً أن يميّز بين الأشياخ، فليس كلّ من حفظ الفقه أو الحديث أو تصدّر للفُتيا أو لبس لباس المشايخ هو أهل للتربية والإرشاد والتزكية، واستقر الاصطلاح على أنّ أنواع الشيوخ لا تكاد تخرج عن نوعين: شيخُ تربيةٍ، وشيخُ علمٍ.
بِسم اللَّه الرّحمَن الرّحيم
الحمد للَّه ربّ العالمين وأفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين
قال الله عز وجل في كتابه العزيز في سورة البقرة:
{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (129)
وقال سبحانه وتعالى في سورة البقرة في آية ثانية:
{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (151)
ويقول سبحانه وتعالى في سورة آل عمران:
{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (164)
ويقول سبحانه في سورة الجمعة:
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (2)
من خلال استقراء هذه الآيات الكريمات التي جاءت في سور متعددة يتبين لنا بعض المهام التي أرسل الله سبحانه رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم من أجلها وهي على الترتيب كما جاءت في الآيات:
التلاوة والتزكية والتعليم
وإننا عندما نراجع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه رضي الله عنهم تجد تقريراً لهذا الفهم ولهذا المعنى وإليك بعض الأمثلة على ذلك:
- لقد كان نزول القرآن منجما أي مفرقا فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتلو على أصحابه ما ينزل عليه من الآيات ويعلمهم الأحكام شيئا فشيئا وحكما حكما فعن سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كان الرجل منا إذا تعلّم عشر آياتٍ لم يجاوزهنّ حتّى يعرف معانيهنّ والعمل بهنّ).
- لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم سيدنا أبي بكر بالإمامة في الصلاة فلقد روى البخاري في صحيحه في كتاب بدء الوحي: (عن أَبِي مُوسَى قَالَ مَرِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاشْتَدَّ مَرَضُهُ فَقَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ قَالَتْ عَائِشَةُ إِنَّهُ رَجُلٌ رَقِيقٌ إِذَا قَامَ مَقَامَكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ قَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَعَادَتْ فَقَالَ مُرِي أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَإِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَصَلَّى بِالنَّاسِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).
- وبين لنا في حديث جامع مقام كل صحابي في الحديث الذي رواه الحاكم في المستدرك في كتاب ذكر مناقب زيد بن ثابت عن سيّدنا أنس بن مالك قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : (أرحَمُ أُمَّتي بأُمَّتي أبو بكْرٍ، وأشَدُّهم في أمْرِ اللهِ عُمرُ، وأصدَقُهم حَياءً عُثمانُ، وأقرَؤُهم لكتابِ اللهِ أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ، وأفرَضُهم زَيْدُ بنُ ثابتٍ، وأعلَمُهم بالحَلالِ والحَرامِ مُعاذُ بنُ جَبَلٍ، ألَا وإنَّ لكلِّ أُمَّةٍ أمينًا، ألَا وإنَّ أمينَ هذه الأُمَّةِ أبو عُبَيدةَ بنُ الجَرَّاحِ).
فلقد بين لنا صلى الله عليه وسلم مقدار وراثة الصحابي منه فليس كل الصحابة على مقدار واحد من الوراثة فلقد ورث سيّدنا أبيّ بن كعب مهمة التلاوة بينما ورث سيّدنا زيد وسيّدنا معاذ الفقه والفهم للأحكام.
بينما كان نصيب سيدنا أبو بكر وعمر رضي اللّه عنهما من الوراثة أكبر، فورثا المهمة النبويّة كاملةً، التلاوة والتعليم والتزكية (التربية والإرشاد) على الترتيب فكان الصالح لهذ المهمة أولاً سيدنا أبو بكر رضي اللّه عنه فلما توفي كان الوارث لهذه المهمة سيّدنا عمر رضي اللّه عنه.
واختلفت الوصيّة منه صلى الله عليه وسلم لمن قال له أوصني:
- روى البخاري في كتاب بدء الوحي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْصِنِي قَالَ : “لاََ تَغْضَبْ” فَرَدَّدَ مِرَارًا قَالَ: “لاَ تَغْضَبْ“.
- روى الحاكم في المستدرك عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوْصِنِي، قَالَ: أَخْلِصْ دِينَكَ يَكْفِكَ الْعَمَلُ الْقَلِيلُ.
- روى الطبراني في المعجمَ الكبير عنْ مُعَاذِ بن جَبَلٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي، قَالَ:”اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ”، قَالَ: زِدْنِي، قَالَ:”أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ”.
- وروى البخاري في كتاب بدء الوحي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلاَثٍ لاَ أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ صَوْمِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَصَلاَةِ الضُّحَى وَنَوْمٍ عَلَى وِتْرٍ.
ولو أردنا أن نستقصي الوصايا المختلفة منه صلى الله عليه وسلم لأطلنا في ذلك ولكن لنسأل أنفسنا لماذا اختلفت الأجوبة منه صلى الله عليه وسلم مع أن السؤال واحد بقول الصحابي أوصني.
ليس هناك من جواب سوى أنّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقوم بمهمة التزكية التي أرسله اللّه من أجلها بقوله تعالى (وَيُزَكِّيهِم).
فدل ذلك على أن حال هذا الصحابي يختلف عن ذلك فلابد من اختلاف الوصية له، ولما كان هذا الدين محفوظاً من اللّه سبحانه كان لابد من وُرّاث يرثون هذه المهمة عنه صلّى اللّه عليه وسلم فورث الصحابة رضي اللّه عنهم هذه المهام التي أرسله اللّه سبحانه ليقوم بها كلٌّ على قدره فهم خلفاء له صلى الله عليه وسلّم وليس هذا الفهم إلا تصديقاً لحديث سيدنا أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ” وإنّ العلماءَ ورثةُ الأنبياء، وإنّ الأنبياء لم يُوَرِّثُوا ديناراً ولا درهماً، وإنّما وَرَّثُوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر” [رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه في كتاب العلم].
فالوراثة عن النبي صلى الله عليه وسلم تختلف من عَالِم لآخر، فعالم يرث التلاوة، وعالم يرث تعليم الأحكام والفقه، وعالم يرث التزكية والتربية للنفوس، ومن هذا الباب اشترط أهل التصوّف على المسلم الصادق إن أراد السير على خطى سيّدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم وأصحابه الكرام وأن يكون على ما كان عليه السلف الصالح من الصدق والشكر والصبر والورع والتوكل والخشية من الله والحب في الله وإلى غير ذلك من المقامات، اشترطوا وجود الشيخ المُزكّي أو المربي أو ما يُسمَّى “المرشد” (أو سمّه ما شئت)، اشترطوا وجوده في الطريق إلى الله سبحانه إن أراد أن يُحقّقَ ويستفيد من سيره و يُثْمِر.
لذلك يجب على السالك إلى الله الباغي إلى طريق الرشاد سبيلاً أن يُميّز بين الأشياخ فليس كل من حفظ الفقه أو الحديث أو تصدّر للفُتيا أو لبس لباس المشايخ هو أهل للتربية والإرشاد والتزكية.
ولقد استقرّ الاصطلاح على أنّ المشايخ صنفان: “مشايخ علمٍ” و”مشايخ تربية“، وزِيْدَ “شيخُ التّرقّي” وقد لخّص سيّدي أحمد زرّوق الفاسيّ قدّس اللّه سرّه في كتابه “عدّة المُريد الصَدوق” (ص395-399) ذلك مع التمييز بينهم، حيث قال رضي الله عنه: ” والمشايخ ثلاثة في الجملة، شيخ التعليم، وشيخ التربية, وشيخ الترقية.
فأما شيخ التعليم فيحتاج فيه لثلاثة:
- أولها: علم صحيح؛ بحيث يكون مبنيا على الكتاب والسُنّة، مُؤيداً بالقضايا العقلية، والوجوه المفهمة المسلمة، بالأدلة الصحيحة المقدمة.
- الثاني: لسان فصيح؛ بحيث يبين به عن المقاصد من غير احتمال و لا قصور، لأنّ العبارة هي التي تفيد المقاصد وتدفعها.
- الثالث: عقل رجيح يميز به مواضع العلم، ويقي به نفسه عن كل وصف منقص في دينه ودنياه، فيكون تقياً نقياً، وعلامته في ذلك وجود الإنصاف حيث يكون الحق مع غيره، والوقوف مع الحق و حيث لا أحد يقابله بلزوم لا أدري فيما لا يدري، والتبرؤ من مواضع التهم قولاً وفعلاً واعتقاداً.
وأما شيخ التربية فيحتاج فيه إلى ثلاثة أمور:
- أحدها: معرفة النفوس وأحوالها الظاهرة و الباطنة، وما يكتسب به كمالها ونقصها، وأسباب دوام ذلك وزواله، على وجه من العلم والتجربة لا ينتقص ولا يختلّ في أصله وغالب فروعه.
- الثاني: معرفة الوجود وتقلباته، وحكم الشرع والعادة فيما يجريان فيه نصّاً وتجربةً، ومشاهدةً وتحقيقاً، وذوقاً للأجسام الكثيفة، والأرواح اللطيفة؛ حتى يُعامِل كلٌّ بما يليق به.
- الثالث: معرفة التصرف بذلك وتصريفه بأن يضع كل شيء في محله على قدره ووجهه.
وأما شيخ الترقية فعلامته ثلاثة :
أولها : أن رؤيته زيادة في العمل، ومنه قولهم (كنا إذا فترنا نظرنا محمد بن واسع فعملنا عليه أسبوعاً).
الثاني : أن خطابه تنمية الحال …(ونستطيع هنا أن نذكر قول سيدي أبو العبّاس المُرسيّ قدّس اللّه سرّه: “حالُ رَجلٍ في ألفِ رَجل، خيرٌ من قَالِ ألفِ رَجلٍ في رَجل“)
الثالث : أنّ مُخالطته مثيرةٌ للأنوار في بساط الكمال، ومنه قولهم “اصحب من دلّك على الله حاله لا قاله”.
و ليس ذلك إلا تصديقاً للحديث الذي رواه أبو يعلى في مسنده عن سيّدنا ابن عبّاس رضي الله عنهما قال قيل يا رسول الله أي جلسائنا خير قال: “مَن ذكَّركم باللهِ رُؤيتُه وزاد في علمِكم منطقُه وذكَّركم بالآخرةِ عملُه”.
وصلّى اللّه على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّّم.
اترك تعليقاً